العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار الغايات والعواقب.
فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرة نافعة مكروهة ، وأشياء كثيرة ضارة محبوبة ، وهلا جعل الله تعالى النّافع كلّه محبوبا والضار كلّه مكروها فتنساق النفوس للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال؟.
قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خلقه الإنسان صالحا للأمرين وأراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣] ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كوّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد : ٢٥] ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلا عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقية الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتب النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسب الناس وفعلوا قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [١٠٠].
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتب الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب:
ولا فضل فيها للشجاعة والندى |
|
وصبر الفتى لو لا لقاء شعوب |
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو