وأعلم أن استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين. فجملة (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) معطوفة على جملة (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) [البقرة : ٢٣٢] والمناسبة غير خفية.
والوالدات عام لأنه جمع معرف باللام ، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق ، فقوله : (وَالْوالِداتُ) معناه : والوالدات منهن ، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية ، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة ، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلّا بعد الفراق ، ولا يقع في حالة العصمة ؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة ، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلّا لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع ؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها ؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة.
وجملة (يُرْضِعْنَ) خبر مراد به التشريع ، وإثبات حق الاستحقاق ، وليس بمعنى الأمر للوالدات والإيجاب عليهن ؛ لأنه قد ذكر بعد أحكام المطلقات ، ولأنه عقب بقوله (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) فإن الضمير شامل للآباء والأمهات على وجه التغليب كما يأتي ، فلا دلالة في الآية على إيجاب إرضاع الولد على أمه ، ولكن تدل على أن ذلك حق لها ، وقد صرح بذلك في سورة الطلاق بقوله (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) [الطلاق: ٦] ولأنه عقب بقوله : (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وذلك أجر الرضاعة ، والزوجة في العصمة ليس لها نفقة وكسوة لأجل الرضاعة ، بل لأجل العصمة.
وقوله : (أَوْلادَهُنَ) صرح بالمفعول مع كونه معلوما ، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه ؛ لأن في قوله : (أَوْلادَهُنَ) تذكيرا لهن بداعي الحنان والشفقة ، فعلى هذا التفسير ـ وهو الظاهر من الآية والذي عليه جمهور السلف ـ ليست الآية واردة إلّا لبيان إرضاع المطلقات أولادهن ، فإذا رامت المطلقة إرضاع ولدها فهي أولى به ، سواء كانت بغير أجر أم طلبت أجر مثلها ، ولذلك كان المشهور عن مالك : أن الأب إذا وجد من ترضع له غير الأم بدون أجر وبأقل من أجر المثل ، لم يجب إلى ذلك ، كما سنبينه.
ومن العلماء من تأول الوالدات على العموم ، سواء كن في العصمة أو بعد الطلاق