وأما قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا يقولنّ أحدكم أنا خير من يونس بن متّى» يعني بقوله : «أنا» نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : «لا تفضّلوني على موسى» ، فذلك صدر قبل أن ينبئه الله بأنّه أفضل الخلق عنده.
وهذه الدرجات كثيرة عرفنا منها : عموم الرسالة لكافة الناس ، ودوامها طول الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارهم وأموالهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواترا لا يجهلها إلّا مكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف ، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلىاللهعليهوسلم.
وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى ـ عليهماالسلام ـ لشدة الشبه بين شريعتيهما ، لأنّ شريعة موسى عليهالسلام أوسع الشرائع ، ممّا قبلها ، بخلاف شريعة عيسىعليهالسلام.
وتكليم الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطة جبريل ، بأن أسمعه كلاما أيقن أنّه صادر بتكوين الله ، بأن خلق الله أصواتا من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة ، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] في سورة النساء.
وقوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البينات هي المعجزات الظاهرة البيّنة ، وروح القدس هو جبريل ، فإنّ الروح هنا بمعنى الملك الخاص كقوله: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤].
والقدس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميم بمعنى الخلوص والنزاهة ، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ولذلك يقال الروح القدس ، وقيل القدس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية ، أي روح من ملائكة الله.
وروح القدس هو جبريل قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢] ، وفي الحديث : «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها» وفي الحديث أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال لحسان : «اهجهم ومعك روح القدس».
وإنّما وصف عيسى بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس ، للرد