واعلم أنّ العرب تستعمل الصيغتين في التعجّب : يقولون ألم تر إلى كذا ، ويقولون أرأيت مثل كذا أو ككذا ، وقد يقال ألم تر ككذا لأنّهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر ، وفي الحديث «فلم أره كاليوم منظرا قط» ، وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول : ألم تر كاليوم ـ في الخير والشر ـ ، وحيث حذف الفعل المستفهم عنه فلك أن تقدره على الوجهين ، ومال صاحب «الكشاف» إلى تقديره : أرأيت كالذي لأنّه الغالب في التعجّب مع كاف التشبيه.
والذي مر على قرية قيل هو أرميا بن حلقيا ، وقيل هو عزير بن شرخيا (عزرا بن سرّيّا). والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال ، والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصرا لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوت العهد وعصا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سرا بينه وبين أنبياء زمانه وورثتهم من الأنبياء. فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتابا في مراء رآها وحيا تدل على مصائب اليهود وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعد كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قتل. ومن جملة ما كتبه «أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما كثيرة وأمّرني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتحيي هذه العظام؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنت تعلم. فقال لي : تنبأ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصبا وأكسوكم لحما وجلدا. فتنبأت ، كما أمرني فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا». ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أنّ الله لما أعاد عمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة ٤٥٠ قبل المسيح أحيا النبي حزقيال ـ عليهالسلام ـ ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره ـ وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة ـ وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفقد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) إشارة إلى