أبي سعيد الخدري ، وهو قول داود ، واختاره الطبري. ولعلّ القائلين بوجوب الإشهاد الآتي عند قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) قائلون بوجوب الكتابة ، وعليه فقوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣] تخصيص لعموم أزمنة الوجوب لأنّ الأمر للتكرار ، لا سيما مع التعليق بالشرط ، وسمّاه الأقدمون في عباراتهم نسخا.
والقصد من الأمر بالكتابة التوثّق للحقوق وقطع أسباب الخصومات ، وتنظيم معاملات الأمة ، وإمكان الاطّلاع على العقود الفاسدة. والأرجح أنّ الأمر للوجوب فإنّه الأصل في الأمر ، وقد تأكّد بهذه المؤكّدات ، وأنّ قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية رخصة خاصة بحالة الائتمان بين المتعاقدين كما سيأتي ـ فإنّ حالة الائتمان حالة سالمة من تطرّق التناكر والخصام ـ لأنّ الله تعالى أراد من الأمة قطع أسباب التهارج والفوضى فأوجب عليهم التوثّق في مقامات المشاحنة ، لئلّا يتساهلوا ابتداء ثم يفضوا إلى المنازعة في العاقبة ، ويظهر لي أنّ في الوجوب نفيا للحرج عن الدائن إذا طلب من مدينه الكتب حتى لا يعد المدين ذلك من سوء الظنّ به ، فإنّ في القوانين معذرة للمتعاملين.
وقال ابن عطية : «الصحيح عدم الوجوب لأنّ للمرء أن يهب هذا الحق ويتركه بإجماع ، فكيف يجب عليه أن يكتبه ، وإنّما هو ندب للاحتياط». وهذا كلام قد يروج في بادئ الرأي ولكنّه مردود بأنّ مقام التوثّق غير مقام التبرّع.
ومقصد الشريعة تنبيه أصحاب الحقوق حتى لا يتساهلوا ثم يندموا وليس المقصود إبطال ائتمان بعضهم بعضا ، كما أنّ من مقاصدها دفع موجدة الغريم من توثّق دائنه إذا علم أنّه بأمر من الله ومن مقاصدها قطع أسباب الخصام.
وقوله : (فَاكْتُبُوهُ) يشمل حالتين :
الأولى حالة كتابة المتداينين بخطّيهما أو خطّ أحدهما ويسلّمه للآخر إذا كانا يحسنان الكتابة معا ، لأنّ جهل أحدهما بها ينفي ثقته بكتابة الآخر.
والثانية حالة كتابة ثالث يتوسّط بينهما. فيكتب ما تعاقدا عليه ويشهد عليه شاهدان ويسلمه بيد صاحب الحق إذا كانا لا يحسنان الكتابة أو أحدهما ، وهذه غالب أحوال العرب عند نزول الآية. فكانت الأميّة بينهم فاشية ، وإنّما كانت الكتابة في الأنبار والحيرة وبعض جهات اليمن وفيمن يتعلّمها قليلا من مكة والمدينة.
وقوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) أمر للمتداينين بأن يوسّطوا كاتبا يكتب بينهم