متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين : أي إن أمن كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن ، فالبعض ـ المرفوع ـ هو الدائن ، والبعض ـ المنصوب ـ هو المدين وهو الذي ائتمن.
والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمنا. والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه ، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمّن عليه ، من إطلاق المصدر على المفعول. وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله. وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفة الأمين عند قوله تعالى : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) في سورة الأعراف [٦٨].
وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به ؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خيانة ؛ لأنّها ضدّها ، وفي الحديث : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك».
والأداء : الدفع والتوفية ، وردّ الشيء أو ردّ مثله فيما لا تقصد أعيانه ، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨].
والمعنى : إذا ظننتم أنّكم في غنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم ، فأعطوا الأمانة حقّها.
وقد علمت ممّا تقدم عند قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) أنّ آية (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) تعتبر تكميلا لطلب الكتابة والإشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور. ومعنى كونها تكميلا لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بهما حسن التعامل بينهما ، فإن بدا لهما أن يأخذا بهما فنعمّا ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمان بينهما فلهما تركهما.
وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله.
وتقدم أيضا أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجبا ثم نسخ وجوبه ، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية ، وهو قول الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد ، والربيع بن سليمان ، ونسب إلى أبي سعيد