أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله ، لأنّ المعنى أنّ هذا ما عليك. فأمّا ما علينا فالله يعصمك ، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأمّا. على أنّ الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التّقديم من «دلائل الإعجاز» أنّ ممّا يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثر ؛ الوعد والضّمان ، لأنّ ذلك ينفي أن يشكّ من يوعد في تمام الوعد والوفاء به فهو من أحوج النّاس إلى التّأكيد ، كقول الرّجل : أنا أكفيك ، أنا أقوم بهذا الأمر انتهى. ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢]. فقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فيه هذا المعنى أيضا. والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه.
و (النَّاسِ) في الآية مراد به الكفّار من اليهود والمنافقين والمشركين ، لأنّ العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه ، وإنّما يخاف عليه أعداءه لا أحبّاءه ، وليس في المؤمنين عدوّ لرسوله. فالمراد العصمة من اغتيال المشركين ، لأنّ ذلك هو الّذي كان يهمّ النّبيءصلىاللهعليهوسلم ، إذ لو حصل ذلك لتعطّل الهدي الّذي كان يحبّه النّبيء للنّاس ، إذ كان حريصا على هدايتهم ، ولذلك كان رسول الله ، لمّا عرض نفسه على القبائل في أوّل بعثته ، يقول لهم «أن تمنعوني حتّى أبيّن عن الله ما بعثني به ـ أو ـ حتّى أبلّغ رسالات ربّي». فأمّا ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك ممّا نال رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليكون ممّن أوذي في الله : فقد رماه المشركون بالحجارة حتّى أدموه وقد شجّ وجهه. وهذه العصمة الّتي وعد بها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم قد تكرّر وعده بها في القرآن كقوله : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧]. وفي غير القرآن ، فقد جاء في بعض الآثار أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخبر وهو بمكّة أنّ الله عصمه من المشركين. وجاء في الصّحيح عن عائشة أنّ رسول الله كان يحرس في المدينة ، وأنّه حرسه ذات ليلة سعد بن أبي وقّاص وحذيفة وأنّ رسول الله أخرج رأسه من قبّة وقال لهم : «الحقوا بملاحقكم فإنّ الله عصمني» ، وأنّه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ستّ للأعرابي غورث بن الحارث الّذي وجد رسول الله نائما في ظلّ شجرة ووجد سيفه معلّقا فاخترطه وقال للرسول : من يمنعك منّي ، فقال : الله ، فسقط السيف من يد الأعرابي. وكلّ ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية. والّذين جعلوا بعض ذلك سببا لنزول هذه الآية قد خلطوا. فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنّه لا يتغيّر مع تغيّر صنوف الأعداء.
ثمّ أعقبه بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) ليتبيّن أنّ المراد بالنّاس كفّارهم ، وليؤمي إلى أنّ سبب عدم هدايتهم هو كفرهم. والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم ، فهو وعد لرسوله بأنّ أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلا لكيد الرّسول