وفي قوله (وَلا نَكْتُمُ) دليل على أنّ المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف ، وهو الإخبار عن أمر خاصّ يعرض في مثله الترافع. وليس المراد بها اليمين كما توهّمه بعض المفسّرين فلا نطيل بردّه فقد ردّه اللفظ.
وجملة (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنّها جواب سؤال مقدّر بدليل وجود (إِذا) ، فإنّه حرف جواب : استشعر الشاهدان سؤالا من الذي حلفا له بقولهما : لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة الله ، يقول في نفسه : لعلّكما لا تبرّان بما أقسمتما عليه ، فأجابا : إنّا إذن لمن الآثمين ، أي إنّا نعلم تبعة عدم البرّ بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين ، أي ولا نرضى بذلك.
والآثم : مرتكب الإثم. وقد علم أنّ الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافا مع «إذن» الدالّة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميّت.
وقوله : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ) الآية ، أي إن تبيّن أنّهما كتما أو بدّلا وحنثا في يمينهما ، بطلت شهادتهما ، لأنّ قوله (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) فرع عن بطلان شهادتهما ، فحذف ما يعبّر عن بطلان شهادتهما إيجازا كقوله : (اضْرِبْ)(١)(بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠] أي فضرب فانفجرت.
ومعنى (عُثِرَ) اطّلع وتبيّن ذلك ، وأصل فعل عثر أنّه مصادفة رجل الماشي جسما ناتئا في الأرض لم يترقّبه ولم يحذر منه فيختلّ به اندفاع مشيه ، فقد يسقط وقد يتزلزل. ومصدره العثار والعثور ، ثم استعمل في الظفر بشيء لم يكن مترقّبا الظفر به على سبيل الاستعارة. وشاع ذلك حتّى صار كالحقيقة ، فخصّوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العثار ، وخصّوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر ، وهو العثور.
ومعنى (اسْتَحَقَّا إِثْماً) ثبت أنّهما ارتكبا ما يأثمان به ، فقد حقّ عليهما الإثم ، أي وقع عليهما ، فالسين والتاء للتأكيد. والمراد بالإثم هو الذي تبرّءا منه في قوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ). فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنّهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضا لأنفسهما أو لغيرهما ، أو بأنّ يظهر أنّهما كتما الشهادة ، أي بعضها. وحاصل الإثم أن يتّضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت.
__________________
(١) في المطبوعة : (أن اضرب بعصاك ...) الموافقة للآية : ١٦٠ من الأعراف ، والمثبت هو الموافق للشرح والله أعلم.