الشيء المختار المدّخر لا يكون إلّا أنفس ما أظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وليته ، يعيّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها. وقد انفرد صاحب «الكشاف» ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضا.
ولا شكّ أنّه يعني باتّصال هذه الجملة بما قبلها : اتّصال الكلام الناشئ عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنّه لمّا تضمّنت الآيات تحريم كثير ممّا كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرّضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار ، أو في شدّه كلب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم.
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذنا بتوقّع منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة إلخ. ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف «من اضطرّ في مخمصة» عليه.
والأحسن عندي أن يكون موقع (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) متّصلا بقوله : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة ، وذلك أنّ الله امتنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات : مرّة بوصفه في قوله (دِينِكُمْ) ، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله : (نِعْمَتِي) ، ومرّة باسمه في قوله : (الْإِسْلامَ) ؛ فقد تقرّر بينهم : أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلمّا علمهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلخ ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرّع على قوله: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) وتعقّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة.