وذكر الحياة هنا له موقع عظيم وهو أنّ همّهم من هذه الدنيا هو الحياة فيها لا ما يتكسب فيها من الخيرات التي تكون بها سعادة الحياة في الآخرة ، أي غرّتهم الحياة الدنيا فأوهمتهم أن لا حياة بعدها وقالوا : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام:٢٩].
والضمير المجرور في (وَذَكِّرْ بِهِ) عائد إلى القرآن لأنّ التذكير هو التذكير بالله وبالبعث وبالنعيم والعذاب. وذلك إنّما يكون بالقرآن فيعلم السامع أنّ ضمير الغيبة يرجع إلى ما في ذهن المخاطب من المقام ، ويدل عليه قوله تعالى : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ) (يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥]. وحذف مفعول (ذَكِّرْ) لدلالة قوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) أي وذكّرهم به.
وقوله : (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) يجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل (ذَكِّرْ) وهو الأظهر ، أي ذكّرهم به إبسال نفس بما كسبت ، فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما «هم» و (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ). وخصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل. ويجوز أن يكون (أَنْ تُبْسَلَ) على تقدير لام الجرّ تعليلا للتذكير ، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة. والتقدير : لئلّا تبسل نفس ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، وقد تقدّم في آخر سورة النساء [١٧٦]. وجوّز فيه غير ذلك ولم أكن منه على ثلج.
ووقع لفظ (نفس) وهو نكرة في سياق الإثبات وقصد به العموم بقرينة مقام الموعظة ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] ـ أي كلّ نفس ـ علمت نفس ما أحضرت ، أي كلّ نفس.
والإبسال : الإسلام إلى العذاب ، وقيل : السجن والارتهان ، وقد ورد في كلامهم بالمعنيين وهما صالحان هنا. وأصله من البسل وهو المنع والحرام. قال ضمرة النهشلي :
بكرت تلومك بعد وهن في النّدى |
|
بسل عليك ملامتي وعتابي |
وأمّا الإبسال بمعنى الإسلام فقد جاء فيه قول عوف بن الأحوص الكلابي :
وإبسالي بنيّ بغير جرم |
|
بعوناه ولا بدم مراق |
ومعنى : (بِما كَسَبَتْ) بما جنت. فهو كسب الشرّ بقرينة (تُبْسَلَ).