ذووها في بعض شؤن تاريخية ، ذات أهمية عظيمة في وقتها. فكنت لا أصل إلى ما يهمّني أمره من بعض هذه المواد ، إلا بعد عناء شديد ونفقة باهظة.
وكنت في أثناء استقصائي أخبار الآثار ، أضطر في بعضها إلى تحمل مشاقّ الأسفار.
لأتمكن من الاطلاع على حقيقة حالها ، وأكتب عنها كتابة تحقيق ، لا كتابة تقليد وتلفيق.
لم أزل مثابرا على هذا العمل ، لا يعوقني عنه عائق ، ولا يصرف همتي عنه صارف حتى يسرّ المولى لي إتمام هذا الكتاب اللابس من المحاسن أجمل جلباب فجاء بحمد الله تعالى تاريخا مفردا في بابه ، فائقا جميع أترابه ، من الكتب التاريخية الحلبية ، جامعا أشتات ما تفرق فيها على اختلاف نزعاتها وأساليبها. فإنه جمع بين ذكر أخبار حلب وملحقات ولايتها وبين ذكر أخيارها وآثارها غير مقتصر على ذكر واحد منها ، كأكثر التواريخ الحلبية السابقة.
وكنت كلما هممت بطبع هذا الكتاب وتدوينه إجابة لإلحاح الكثيرين المتشوقين إليه ، عارضني بذلك سوء الظن باستحساني إياه ، كمن قيل فيه :
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن |
|
هو بابنه وبشعره مفتون |
وناجاني وحي الضمير بقوله : لا تعجل بذلك ، فعسى أن يكون استحسانك هذا من باب افتتان الرجل بشعره ، وإعجاب المرء ببضاعته ، أو هو من قبيل المثل : (القرنبى في عين أمها حسنة) (١) وحينئذ أضرب الصفح عن طبعه وتدوينه. وآخذ بالبحث عن طريقة أصل بواسطتها إلى معرفة حقيقة هذا الاستحسان : أهو حقيقي أم هو نوع من ذلك الافتتان. فلم أر في الوصول إلى هذا الغرض بعد البحث الطويل عنه ـ سوى طريقة واحدة ، ألا وهي عرض الكتاب على كل من رغب بالاطلاع عليه ، فكنت لا أضنّ بعرضه على كل وارد وصادر أتوسّم فيه سلامة الذوق ، وصحة الانتقاد ، وسجية الإنصاف ، حتى عرضته على الجمّ الغفير من الذين عرفوا بممارسة التاريخ والوقوف على دقائقه ، وكشف غوامضه. فكنت لا أسمع من كل من وقف عليه. وقرأ منه فصولا في
__________________
(١) القرنبى : حشرة مثل الخنفساء منقطعة الظهر طويلة القوائم.