ثم إن نهر عفرين قد يتسع في أيام الشتاء اتساعا عظيما حتى يعسر المرور منه ، مع أنه قد يجف في أيام الصيف أو يقارب الجفاف. وفي سنة ١٣٠٠ انعقد عليه قرب قرية الزيادية في ناحية الجومة من أعمال كلّيس جسر حجري عظيم غاية في الإتقان والزخرفة. وحين انتهاء عمله أولم المجلس البلدي عنده وليمة حافلة دعا إليها جميع وجهاء الولاية من أمراء الحكومة والعسكرية والعلماء والأعيان ، فصار يوما مشهودا بلغت نفقته أربعمائة وثمانين ذهبا عثمانيا أخذت من صندوق بلدية حلب وكلّيس وأنطاكية واسكندرونة ثم إن هذا الجسر لم يلبث إلا ريثما أتى عليه الشتاء ، وهطلت السماء بالسيول الجارفة وتدفقت على عفرين ظهور الجبال وبطون الأودية ، وساقت إليه ألوفا من الأخشاب والأشجار الجبلية ، فما كان إلا أن تعاظم هذا النّهر وطغى وحمل على الجسر حملة شديدة دكّت منه قنطرتين وساقت أحجارهما إلى مكان بعيد ، فأصبح كأن لم يغن (١) بالأمس. ولما كان وجوده مما لا بد منه ، لأنه معبر لطريق المركبات الذي تم أيضا في السنة المذكورة ، فقد قضت الحال بإعادته. ولضيق الصندوق البلدي عما يعيده حجرا أعيد من الخشب فاستحضرت الأخشاب العظيمة وربطت ببعضها بالحديد ونصبت كالباب العظيم على أطراف القنطرتين الباقيتين ، ورجع الانتفاع به كما كان ، غير أنه لم يلبث أيضا أن أتى عليه الصيف وعلقت به النار ولم يجتمع الناس لإطفائه إلا وقد استحال رمادا كأن لم يكن ، ثم بعد مدة أعيد خشبا على الصفة المذكورة وقد مسحت هذا الجسر بقدمي فبلغ طوله ٢٥٩ قدما وعرضه ٣٢ وقرأت ما نقش على حجرة في شمالي رأسه الغربي ما صورته : «أنشئ هذا الجسر المتين في عهد خلافة سلطان السلاطين الخليفة الأعظم صاحب الشوكة السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني ، وكان إنشاؤه ثمرة الهمة التي بذلها حضرة جميل باشا والي ولاية حلب وأثر مهارة رئيس مهندسي الولاية قسطنطين مادريديس أفندي ، وضع أساسه بحضور حضرة الوالي المشار إليه في اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة ١٢٩٨ هجرية. وثم إنشاؤه في ظرف سنة واحدة ، وصادف فتحه كذلك في اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة ١٢٩٩ بحضور الوالي المشار إليه ودعي اسمه المجيد جسر السلطان عبد الحميد ، وبلغت نفقة تعميره أربعة آلاف وأربعمائة وثمانية عشر ذهبا عثمانيا.
__________________
(١) غني بالمكان يغنى : أقام به.