استدل على ثبوتها ومغايرتها للحس المشترك بوجهين :
الأول : أن لصور المحسوسات قبولا عندنا وحفظا ، وهما فعلان مختلفان ، فلا بدّ لهما من مبدأين متغايرين ، لما تقرر من أن الواحد لا يكون مصدرا لأثرين ، ومبدأ القبول هو الحس المشترك ، فمبدأ الحفظ هو الخيال ، وإنما احتيج إلى الحفظ لئلا يختل نظام العالم ، فإنا إذا أبصرنا الشيء ثانيا ، فلو لم يعرف أنه هو المبصر أولا لما حصل التمييز بين النافع والضار.
واعترض بأن الحفظ مسبوق بالقبول ومشروط به ضرورة. فقد اجتمعا في قوة واحدة سميتموها الخيال ، وبأن الحس المشترك مبدأ الإدراكات مختلفة هي أنواع الإحساسات ، وبأن النفس تقبل الصور العقلية ، وتتصرف في البدن ، فبطل قولكم الواحد لا يكون مبدأ لأثرين.
وأجيب : بأن الخيال لا بدّ أن يكون في محل جسماني ، فيجوز أن يكون قبوله لأجل المادة ، وحفظه لقوة الخيال ، كالأرض تقبل الشكل بمادتها ، وتحفظه بصورتها وكيفيتها. أعني اليبوسة ، وبأن مبدئية الحس المشترك للإدراكات المختلفة ، إنما هي لاختلاف الجهات ، أعني طرق التأدية من الحواس الظاهرة ، وكذا إدراكات النفس وتصرفاتها من جهة قواها المختلفة ، ولا يخفى أن هذا الجواب يدفع أصل الاستدلال لجواز أن لا تكون إلا قوة واحدة ، لها القبول والحفظ بحسب اختلاف الجهات ، وكذا الجواب بأن القبول والإدراك من قبيل الانفعال دون الفعل. فاجتماع القبول والحفظ وأنواع الإدراكات في شيء واحد ، لا يقدح في قولنا الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.
الثاني : أن الصور الحاضرة في الحس المشترك قد تزول بالكلية ، بحيث يحتاج إلى إحساس جديد وهو النسيان ، وقد تزول لا بالكلية ، بل بحيث تحضر بأدنى التفات. وهو الذهول (١) ، فلولا أنها مخزونة حينئذ في قوة أخرى يستحضرها
__________________
(١) ذهلت عن الشيء أذهل ذهلا : نسيته وغفلت عنه ، وأذهلت عنه كذا ، وفيه لغة أخرى : ذهلت بالكسر ذهولا.
قال اللحياني : يقال : جاء بعد ذهل من الليل ، ودهل أي بعد هذه.