ولا نسلّم أن القسر لا يكون إلا على خلاف الطبع ، وأن القاسر لا يكون إلا متشابها ، ليلزم تشابه الحركات ، وأن الكلى من الإرادة. والإدراك لا يصلح مبدأ لخصوصيات الحركات. لم لا يجوز أن تستند الحركات المتعاقبة إلى إرادات وإدراكات كلية متعاقبة ، لا إرادة وإدراك للحركة على الإطلاق.
وتحقيق ذلك ما أشار إليه ابن سينا في الإشارات ، من أن المطلوب بالحركة الوضعية ، لا يكون إلا الوضع المعين ، ويمتنع أن يكون موجودا ، لأن الحاصل لا بطلب ، وأن يكون في الحركة السرمدية (١) جزئيا ، لأن الحركة المتوجهة إليه تنقطع عنده ، فمطلوب إرادة الفلك ، يجب أن يكون وضعا معينا مفروضا كليا تفرضه الإرادة. وتتجه إليه بالحركة ، والمتعين ، لا ينافي الكلية ، لأن كل واحد من كل كلى ، فله مع كليته تعين يمتاز به عن سائر آحاد ذلك الكلى.
واعلم أن المشهور من مذهب المشائين (٢) ، والمذكور في النجاة والشفا ، أن النفوس الفلكية ، قوى جسمانية منطبعة في المواد ، بمنزلة نفوسنا الحيوانية.
وصرح في الإشارات. بأن لها نفوسا مجردة ، بمنزلة نفوسنا الناطقة.
فقال الإمام : فيجب أن يكون لكل فلك نفس مجردة ، هي مبدأ الإرادة الكلية ، ونفس منطبعة هي مبدأ الإرادة الجزئية.
وردّ عليه الحكيم المحقق (٣). بأن هذا مما لم يذهب إليه أحد ، وأن الجسم الواحد يمتنع أن يكون ذا نفسين. أعني ذا ذاتين متباينتين ، هو آلة لهما ، بل الإرادات الجزئية تنبعث عن إرادة كلية ، ومبدؤهما نفس واحدة مجردة ، تدرك المعقولات بذاتها ، والجزئيات بجسم الفلك ، وتحرك الفلك بواسطة صورته النوعية ، التي هي باعتبار تحريكها قوة ، كما في نفوسنا وأبداننا بعينها. ولا يخفى أن هذا مناقشة في اللفظ حيث سمي تلك الصورة والقوة نفسا.
__________________
(١) السرمد : الدائم قال الله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ).
سورة القصص آية ٧١ ـ ـ ٧٢
(٢) سبق الحديث عن المشائين في كلمة وافية.
(٣) هو نصير الدين الطوسي وسبق الحديث عنه في هذا الجزء وتكلمنا عن موقف ابن قيم الجوزية منه.