ب : لو فَرَضْنا أنّ العقل عجز تماماً عن إدراك حسنِ الأفعال وقبحها ، واحتاج الناس في معرفة حسن جميع الأفعال وقبحها إلى الشرع ، لزم من ذلك عدم إمكانِ إثبات الحسن والقبح الشرعيّين أيضاً ذلك لأنّنا لو فَرضنا أن الشارع أخبَرَ عن حُسن فعل أو قبح آخر لا يمكننا أنْ نتوصَّل إلى معرفة حُسن ذلك الفعلِ أو قبحِه ، بواسطة هذا الإخبار ، ما دمنا نحتمل الكذب في إخبار الشارع ، وكلامِهِ إلّا إذا ثبت قَبْل ذلك قبحُ المين والكذب وتنزّهِ الشارع عن هذه الصفةِ القبيحةِ ، ولا يمكن إثبات ذلك إلّا من طريق العقل. (١)
هذا مضافاً إلى أنّه يُستفاد من الآيات القرآنية أنّ العقل البشريّ قادرٌ على إدراك حسنِ بعض الأفعال أو قبحها ، ولهذا احتكم القرآنُ إلى العقل واللبّ ، ودعا إلى تحكيمه أكثر من مرة إذ قال : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).
وقال أيضاً : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٣).
وهنا يُطرح سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو أن الله تعالى قال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٤).
والسؤال الآن هو : إذَنْ لا يمكن أن يُسأَل اللهُ عن أيّ فعل قامَ به
__________________
(١). وعبارة المحقّق الطوسي في تجريد الاعتقاد تشير إلى هذا البرهان حيث قال : «ولانتفائهما مطلقاً (أي عقلاً وشرعاً) لو ثبتا شرعاً» أي لو انحصر إثبات الحسن والقبح في إخبار الشرع لانتفى حسنُ الأفعال وقبحُها بالكلية ، ولم يثبُتا لا شرعاً ولا عقلاً.
(٢). القلم / ٣٥ ـ ٣٦.
(٣). الرحمن / ٦٠.
(٤). الأنبياء / ٢٣.