فهذا تنبيه منه لإحاطة علمه القديم بكل ذرة من العرش إلى الثرى ظاهرها وباطنها ؛ حتى يفرغ المراقب الصادق من اطلاع الحق بوصف العظمة والكبرياء على نوادر الخطرات وبطون الحركات ، فإن كان خاطره بادرا من قهره سبحانه تستتر في جريانه في صخرة النفوس أو في سماء الأرواح أو في أرض القلوب ، يظهره الحق إلى عرصة العقل لعين السر ، فيحاسبه بذلك ، ويعرفه مكان نفعه وضره ؛ ليعرف صاحبه وصف جلال علمه كيف يحيط بأسرار الضمائر وبطون الخواطر ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (١٦)!
قال عبد العزيز المكي : مثال (حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) مجتمعة أو في سبع سماوات وأرضين متفرقة يأتي بها الله مجتمعة على صاحبها ؛ لأن الله لطيف خبير لطف أفعاله عن أن يدركه أحد بعقل.
(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨))
قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : الأمر بالمعروف أن ترشد الخليقة إلى الحقيقة بعد ما ذقت طعم القربة ، والنهى عن المنكر زجرك نفسك عن النظر إلى ما دون خالقها.
وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : اصبر على طوارق القهر وامتحان الريب ، واسكن تحت جريان القضاء والقدر ؛ فإن ذلك من عزائم الحقيقة والمعرفة ، وأيضا : واصبر على ما أصابك من لطائف كشف جماله وحقائق أنوار ذاته وصفاته ، ولا تفش تلك الأسرار بالغلبة والسكر حين يظهر الشّطّاح السكران دعوى الأنائية ، فإن كتمانها من عزائم أهل الصحو في المعرفة.
قيل : الأمر بالمعروف الدلالة على الرشد ، والنهي عن المنكر المنع عن الغي.
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩))
قوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : إن العارف إذا شرب من بحر الوحدانية شربة فرح بوجه الحق وكاد أن يتبختر بالعز والكبرياء من صولة الحال ، فيؤدبه الله بأن يلقي عليه عزة الوحدة ، فيفنيه تحت أنوارها حتى يخرجه من حد السكر إلى حد الصحو ؛ فتكون خطواته خطوات أهل التمكين لا خطوات أهل التلوين ، وكل مريد يشرب