من سواقي صفاء العبودية شربة تفرحه بفرحة الوقت وصفاء الذوق ، فيهيجه إلى الزفرات والشهقات ، ولا يجوز ذلك له ؛ فإن أصواته ممزوجة بخطوات الطبيعة ، مخلوطة بهواجس النفسانية ، فإذا صاح صارت صيحته صيحة الطبيعة لا صيحة الحقيقة ؛ لذلك نهاه الله بقوله : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٩).
قال سفيان الثوري : صوت كل شيء تسبيح إلا صوت الحمير ؛ فإنها تصيح لرؤية الشيطان ؛ لذلك سماه الله منكرا.
وقال الأستاذ في قوله : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) : كن فانيا عن شواهدك ، مصطلما عن حولك ، مأخوذا عن قوتك وحولك ، منتسقا بما استولى عليك من كشوفات سرّك ، وانظر من الذي يسمع صوتك حتى تستفيق من حمار غفلتك : (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) في الإشارة أنه يتكلم في لسان المعرفة من غير إذن من الحق.
وقالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه.
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١))
قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) : النعمة الظاهرة : الخلق الحسن ، والخلق الحسن ، والأدب الحسن ، والظرف ، والهيئة اللطيفة ، ومتابعة السنة ، والاجتناب عن المعصية ، والتواضع في أولياء الله ، والعبادة الصافية ، والعافية والصحة والسلامة ، وأن تكون مكسوا بشمل نور الروحانية والربانية ، والنعمة الباطنة : الفطرة السليمة ، والاستعداد لقبول الغيب والعقل الكامل والفطنة والذكاء والحكمة والفهم وطمانينة النفس وصفاء الروح ، واتصال الذكر على الدوام والإيمان والإيقان والعرفان والإخلاص والتوحيد ، وثمرات هذه الأشياء الوجد والحال والمراقبة والأنس والحياء والمحبة والشوق والعشق ، فإذا بلغ الرجل إلى هذه المراتب يهيئ الله له بالظاهر مجالسة الأولياء مع السماع بصوت طيب وموضع طيب فيه وجه حسن ، والطيب والريحان بلا كدورة ولا فترة ولا صحبة الأضداد ، ويلقي في قلبه بروق نيران الأشواق المهيجة لسره إلى مواصلة الحق بنعت المحبة والأنس ، فهو ممن أسبغ الله عليه نعمه الظاهرة والباطنة.
قال بعضهم : النعم الظاهرة العافية والأمن ، والنعم الباطنة الرضا والغفران.