مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣))
قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) : منّ الله على عباده المصطفين في الأزل بمعرفته ومحبته بأن أعطاهم كتابه وعلمهم عجائبه وغرائبه ، فالاصطفائية تقدمت الوراثة اصطفاء بمحبته ومشاهدته ، ثم خاطبهم بما له عندهم وما لهم عنده ، وهذا الميراث الذي أورثهم من جهة نسب معرفتهم به واصطفائيته إياهم ، وهو محل القرب والانبساط ؛ لذلك قال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) ، ذكر (ثُمَ) للتأخير ، ثم قسّمهم على ثلاثة أقسام : ظالم ، ومقتصد ، وسابق ، والحمد لله الذي جعل الظالم من أهل الاصطفائية ، ألا ترى أنه ذكر الاصطفائية ، ثم ذكر الظالم وقرنه بالمقتصد والسابق ، فالظالم عندي ـ والله أعلم وأحكم ـ الذي وازى القدم بشرط إرادة حمل وارد جميع الذات والصفات وطلب كنه الألوهية بنعت إدراكه ، فأي ظالم أعظم منه إذ طلب شيئا مستحيلا ، ألا ترى الله سبحانه كيف وصفه بهذا الظلم بقوله : (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ، وهذا من كمال شوقه إلى حقيقة الحق وكمال عشقه ومحبته وجلاله وجماله ، وأيضا الظالم من أظهر سرّ الأسرار من غلبة المواجيد عن الخلق ، وأيضا الظالم من أخرج قدم المعرفة من جادة الرسوم من كمال سكره ؛ لأنه خرج من حد التمكين ، وأيضا الظالم الذي غلب عليه عشق الأزل ، ويريد أن يكون الأزل بعينه ، وهذا نعت متحد ، وأي ظالم أعظم من الحادث الذي يدّعي الأنانية على نعوت الحدوثية ، وإن كان معذورا من جهة السكر والوله ، وأيضا الظالم الذي وقف في مقام لذة المشاهدة عن السير في الألوهية ، وأيضا الظالم الذي احتجب منه به ولا يعرف أن ذلك مكر الأزل ، وأيضا الظالم الذي يحب الحق لراحة مشاهدته ، وأيضا الظالم الذي يطلب منه الكرامات والآلاء والدرجات ، وأيضا الظالم الذي آثر البقاء على الفناء ، والمقتصد ـ والله أعلم ـ الذي عرف الحق بالحق وجعل الخلق للحق ، ولا يتجاوز عن حدود العبودية إلى عالم الربوبية ، والمقتصد أيضا الذي استوت أعماله وأفعاله وأقواله وسكره وصحوه وفناؤه ، والسابق الخيرات هو المستقيم في جميع الأحوال وصحوه أكثر من سكره وبقاؤه أقوى من فنائه ، وهو السابق في الأزل بالتقدم على أهل الاصطفائية من أهل الولاية ، وأيضا الظالم المريد والمقتصد المحب والسابق العارف.
وقال الحسن البصري : السابق من رجحت حسناته ، والمقتصد من استوت حسناته