مشاهدة جمال الحق إلى الأكوان حين عارضه صواعق الامتحان ، فخرج منها بوصف الصدق في المحبة ، وصفو الصحو في المعرفة ، حين أسكر الحق صفوة أرواح الصادقين بشربات بحر وصله ووصفه ، أخبر بحرف صاد من صفاوة قلوب العارفين ، وصدق حقائق محبة المحبين ، وتلهب نيران صدور العاشقين ، وصبابة أسرار الوالهين ، وصفوف أهل الاستقامة في مقام مشاهدة القدم ، حين وازنوا بنعت الفناء جلال البقاء ، وإشارة التوحيد فيه أنه كان بجلاله وعظمته في قدم القدم ، وأزل الأزل بحار الصمدية صافية عن غبار الحدثان ، فأشار به عنه ، وبان كل مصدر كل الكل ، صدر منه الوجود ؛ إذ كان وجوده منزها عن الاجتماع والاقتران والعلل والانقسام أي : أظهرت لك يا صادق ما كان وما سيكون ، وجعلتك بصيرا ببصري ؛ حتى تطلع على غيبوبة جلال وصالي ، فكنت مصورا بصورة روح الأول التي صدرت مني بيعتي.
ثم قال : شطح من مقام السكر رمز حقيقة الاتحاد سيد أهل الصحو صلىاللهعليهوسلم بقوله :
«من رآني فقد رأى الحقّ» (١) ، (٢) ثم أراد أن يبين للعالمين بحرف الصاد وصف الربوبية ، وحقيقة محبة حبيبه ومنازله الرفيعة في مقام وصاله ، فأقسم بصفاته التي هي مفاتيح كنوز ذاته التي أخبر عنها بحرف الصاد ، فقال : (وَالْقُرْآنِ) أي : أنت بالوصف الذي وصفتك بحق صفاتي (وَالْقُرْآنِ) ، ثم وصف القرآن بأنه تجلى به من نفسه فيه لقلوب العارفين ، فيورث منه أسرارهم أنوار ذكره ؛ إذ هو ذكر القدم بذكر جميع الصفات ، والذات فؤاد المقربين وأرواح الشائقين ، وهذا قوله : (ذِي الذِّكْرِ) (١) يتذكر به العقول الراسخة معتبرات لطائف حقائق الربوبية التي برقت أنوارها في صنائع ملكه ، وملكوته ومقدورات قدرته ، ويدرك بنور قلوب الصادقين أنوار مشاهدته حين خاطبهم به أي : بك وبالقرآن إن المحجوبين عن هذه الشواهد في عزة وظلمة عن معرفتك ، وفي خلاف عن إدراك شرفك وفضلك وفضل أمتك بقوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) ، لا يخرجون من مضيق غفلتهم إلى فضاء المعرفة ؛ لأنهم طردوا بسوط قهر الأزل عن جناب القدم ، ما وهب لهم استعداد قبول نور المعرفة ، فبقوا إلى الأبد في شر النفاق وظلمة الشقاق.
قال ابن عطاء : في معنى الصاد قسم صفاء قلوب العارفين ، وما أودعت فيها من
__________________
(١) رواه البخاري (٦ / ٢٥٦٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٦).
(٢) أي : رأى الله على قول بعض أهل الإشارات حيث جعل رؤية العبد له صلىاللهعليهوسلم يقظة أو مناما رؤية للحق سبحانه.