استبعدوا اصطفائية حبيبه بالوحي ، ولم يعرفوه بأنه أثر الله في العالم ، ومشكاة تجليه حتى قالوا مثل ما قالوا : (عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ، رأوه ونفوسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلىاللهعليهوسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفس النفوس ، وروح الأرواح وأصل الخليقة ، وباكورة من بساتين الربوبية ، يا ليت لهم لو رأوه في مشاهد الملكوت ، ومناصب الجبروت أن خاطبه الحق ب (لولاك لما خلقت الأفلاك).
قال بعضهم : في قوله : (عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) : لما أكرمناهم به من أشرف الرسل ، فلم يعرفوا حقه ، ولم يشاهدوا ما خصوا به من فنون المباركات والكرامات.
(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧))
قوله تعالى : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) : كان خاطر النبي صلىاللهعليهوسلم أرق من ماء السماء بل ألطف من نور العرش والكرسي من كثرة ما ورد عليه نور الحق ، فكان ملطفا بنور نوره ، س مرفقا بلذائذ محبته وشوقه ، لا يحتمل زحمة مقالة المنكرين ، وهذا من كمال جلاله في المعرفة ، لا أنه لم يكن صابرا في مقام العبودية ، بل كان جليس الحق وأهل ملكوته ، وسرادق مجده كيف يسمع سخرية المستهزئين على دينه وشريعته! فمع ذلك أمره الحق بالصبر على ما قالوا ، وأعلمه بأن ذلك امتحان من ولاية القهر ، والواجب على العاشق الصادق أن يستقيم في مشاهدة القهر كما يستقيم في مشاهدة اللطف ، وأصل الصبر التلّبس بنعت صبر الأزل حتى يمكن احتمال أثقال امتحانه به ، وإلا كيف يحمل الحدث وارد القدم وأمره له بالاتصاف به! ومع ذلك ذكره شأن داود عليه الصلاة والسلام في صبره على ما قالوا فيه حين عشق بعروس من عرائسه حين تجلى الحق منها له ، فإنه كان عاشق الحق ، وكان في مبادئ عشقه ، فسلاه بواسطة من وسائطه حتى لا يفنى فيه به ، ثم زاد في وصفه حين قوى في المحبة بالقوة الملكوتية بقوله : (ذَا الْأَيْدِ) : واهب نفسه له حامل أثقال قهره به راجع من الوسيلة إلى الأصل بقوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) : رجع إلى الحق بنعت الندم على ما سلف من أيامه في الفترة من عين القدم بغيره من أهل العدم ، وإن كان طريقا منه إليه ، أي : كن يا محمد كداود في بلائي ، فأنا بلاء الأنبياء والمرسلين والعرفاء والصديقين.
وقال شاه الكرماني : الصبر ثلاثة أشياء : ترك الشكوى ، وصدق الرضا ، وقبول القضاء بحلاوة القلب.
وقال بعضهم : هو الفناء في البلاء بلا ظهور اشتكاء.