قال أبو عثمان : أيقن داود بأوائل البلاء فالتجأ إلى التضرع.
قال أبو سعيد الخراز : زلات الأنبياء في الظاهر زلات وفي الحقيقة كرامات وزلفى ، ألا ترى إلى قصة داود حين أحس بأوائل أمره كيف استغفر وتضرع؟! فأخبر الله عنه بما ناله في حال ظنه من الزلفى.
وقال : ظن داود أنما فتناه فتضرع ورجع ، فكان له بذلك عندنا لزلفى وحسن مآب.
صدق الشيخ أبو سعيد الخراز فيما قال أن بلاء الأنبياء والأولياء لا ينقص اصطفائيتهم بل يزيد شرفهم على شرفهم بقوله سبحانه : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) ، زلته كانت التفاته من الذات إلى الصفة ومن الصفة إلى الفعل ، فإذا رجع إلى أوائل الحقائق في التوحيد وإفراد القدم عن الحدوث ستر مقام البلاء عنه بعد ذلك ، حتى لم يطق الرجوع من النهاية إلى البداية ، ومعنى قوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ، زاد زلفته حيث أوقعه في بحار الديمومية والأزلية والأبدية ، وفي كل لمحة كان له استغراق ، وحسن المآب له بأن آواه الحق إليه منه ، ووقاه من قهره ، حتى كان لا يجري عليه بعد ذلك أحكام الامتحان.
(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧))
قوله تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً) : لما خرج من امتحان الحق وبلاياه كساه خلعة الربوبية وألبسه لباس العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء وحبس في الأرض على بساط ملك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن مصورين ، بصورة الروح الأعظم ، فإذا تمكن داود في العشق والمحبة والنبوة والرسالة والتخلق صار أمره أمر الحق ونهيه نهي الحق ، بل هو الحق ، ظهر من لباس الملك والملكوت ، كقول سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه حيث قال : «جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلى من جبال فاران» (١) ، ثم لما وضع الحق معجون سر قهر الأزل في الطبع الإنساني وهو محل الاستدراج الذي يجري عليه أحكام مكر القدم دقق عليه الأمر ، وحذّره أن يرى نفسه في البين في إجراء الحكم بين الخليقة ،
__________________
(١) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٥٩) ، وياقوت الحموي في معجم البلدان (٤ / ٢٢٥).