فقال : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي : فاحكم بحكمي حين عاينتني فيك ، واخرج منك ، ولا تتبع الهوى بأن تنظر إليك ، فيضلك ذلك عن رؤيتي وحكم الاتحاد فينطمس عليك سبيل الصواب في ظهور لطائف حكمتي وحقائق أمور ربوبيتي ، فمن احتجب به مني فهو محجوب به عني ، لا يسلك بعد ذلك طرق الحقائق ، فيقع في أليم عذاب الحجاب ، وهذا معنى قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)
قال ابن عطاء : جعلتك خليفة في الأرض لتحكم في عبادي بحكمي ، ولا تتبع هواك فيهم ورائك ، وتحكم لهم كحكمك لنفسك ، بل تضيق على نفسك وتوسع عليهم.
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩) وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢))
قوله تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) : المتقين الذين وقعوا في رؤية أنوار عظمته وكبريائه التي تبرز من مرائي الأكوان ومقدوراته ، فتنزهوا عن كل ما سواه في رؤية جلاله وإجلاله أي : ليس هؤلاء كالذين بقوا في حجاب النفوس ، لا يخرجون من غشاوات الهوى ، ولا يرون أنوار الهدى.
قال ابن عطاء : أم نجعل المقبلين علينا كالمعرضين عنّا.
وقوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) : ذكر النزول في الكتاب شرط رسوم الأمر ، وفي البرهان ظهور نور الصفة له بحكم التجلي ، وفي الحقيقة لا افتراق في صفاته عن عينية الذات ، هو منزّه عن التغاير ، ألا ترى إلى قوله : (مُبارَكٌ) أي : منزّه عن التفرق بل هو ثابت في أصل الأصول ، (مُبارَكٌ) عليك وعلى أمتك الذين يفهمون حقائقه حيث وقعوا في بحار التدبر والتفكر فيه ، هو مرآة الصفة أعطاها عباده ؛ لينظروا فيها بعيون الأهلية له ؛ حتى يبصروا فيها حقائق الأنوار ، ويدركوا منها دقائق الأسرار ، فعمّ التدبر لعموم العلماء والفهماء ، وخصّ التذكر لخصوص العقلاء ؛ لأن التدبر للفهم ، والتذكر لوقوع الإجلال وخشية الخاص في قلوب أكابر أهل العلم الذين يرون بعيون الأرواح عرائس الصفات فيه ، وينكشف لهم فيه غوامض علوم الألوهية.