العلم أن العبد العارف إذا تحقق في العبودية ووصل إلى رؤية أنوار الربوبية يصل إلى نور الانبساط وذوق الوجد والسكر في رؤية الجمال ، فيطيب وقته ، ويصير مملوءا من نور الحق ، فلا يرى إلا الحق بالحق ، وينسى الحق دون الحق ، فيدّعي هناك الأنائية ، فهدده الحق من ذلك ، وقال : إن تخرجوا من عندي بدعوى الأنانية تكونوا محجوبين بالحال عن المحول ، وهو منزّه عن أن يحول عليه حال مقدس عن المواصلة والمفارقة ، ولا يرضى ، ولا يستحسن لعبده الاحتجاب به عنه ، لكن مكر به بمشيئته القديمة وإرادته السابقة ؛ لأنهما سبقتا على الأمر ، والأمر يتغير ، والرضا لا يتبدل ، وفي قوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) بيان أن الكفر أن نسيان وجوده في غلبة الوجد وذكر الواجد نفسه ، ولا يرضى بذلك ، بل يرضى أن يفنى نفس الواجد فيه تعالى ، وهو باق له لا هو ، فإذا فني عنه شكر الله بفنائه في بقائه ، وذلك قوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وفي الآية من الشطح أن الله سبحانه أعدم الكفر ، وبيّن أن ليس الكفر لأحد من العرش إلى الثرى ، وكيف يكون الكفر! ولا يرضى الله الكفر لأحد ، فخرج الكفر من البين بذلك ؛ لأن الرضا نعته الأزلية ، فإذا بقي الكفر في القدم لا يكون الكفر إلى الأبد ومنبع الرضا والسخط والإرادة والمشيئة ذاته القديم ، وهذه الصفات والذات واحدة من جميع الوجوه ، وبيان ذلك أن حقيقة الكفر في كونه أن يكون العبد محيطا بجميع ذاته وصفاته ، ثم ينكره بحيث إنكاره يقارن إحاطته وكذلك الإيمان ، وذلك مستحيل ، فإذا لا يكون الكفر الحقيقي ولا الإسلام الحقيقي.
قال القاسم : لا يرضى لهم الكفر ، ولكن يقدر عليهم ، وليس الرضا من المشيئة والإرادة والقضاء في شيء.
وقال سهل : أول الشكر الطاعة ، وآخره رؤية المنة.
قال عبد العزيز المكي : الكفران للنعمة هو أن يظن العبد أنه عرف وأدى شيئا من شكر النعمة.
وقال ابن عطاء : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي : لا حاجة به إليكم ، ولكن من كفر وأعرض عنه ممن خلقه لنفسه ولجواره لا يرضى له ذلك حتى يجذبه إليه بتوفيقه ، ويربيه بفضله ويرضاه.
وقال بعضهم في قوله : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) : إن وفقتم لشكر نعمتي أوجبت لكم به رضاي.
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً