والصديقين ، وافهم أيها الناظر في هذا الكتاب أن لنا من العلوم المجهولة ذوقا ، وذلك الذوق لا يليق بفهم أهل الطيلسان والطرق ، ومن ذلك أن الكفر والإيمان طريقان من القهر واللطف إلى عرفان وحدانيته ، فبلغ المؤمن إليه بطريق الإيمان واللطف ، ويبلغ الكافر إلى رؤية قهرياته بالحقيقة عند المعاينات ، فإذا عرف أنه هالك فيها واقتحم في ظلماتها يبدو له في أحايين من الله سبحانه كشوف جلاله وجماله وعلومه الأزلية وألطافه الأبدية ما يضمحل فيها نيران جميع جهلهم ، وهو لا يحتسب ذلك منه ، ومن أنت من العبد ، والرب قوله صدق ، ووعده حقّ ، وإشارته حقيقة ، فأول الآية واضحة ، وآخر الآية إشارة.
قال سهل في قوله : (وَبَدا لَهُمْ) : أثبتوا لأنفسهم أعمالا ، فاعتمدوها ، فلما بلغوا إلى المشهد الأعلى رأوها هباء منثورا ، فمن اعتمد الفضل نجا ، ومن اعتمد أفعاله بدا له منها الهلاك.
(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))
قوله تعالى : (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا) (١) : شكا الله سبحانه عن المدعين الذين يقولون نحن أهله ، فإذا وصل إليهم بلاؤه فزعوا إليه ؛ ليرفع عنهم البلاء ، ولا يفزعون إليه من وجدان ذوق رؤية المبلي في بلائه ؛ ليستزيدوا منه الذوق ، بل يطلبوا منه راحة أنفسهم ، وهم مشركون في طريق المعرفة ، وإذا وصل إليهم نعمة الظاهر تركوه ، واحتجبوا بها ، فإذاهم الحجاب من كلا الطرفين احتجبوا بالبلاء من المبلي وبالنعمة من المنعم.
قال الجنيد : من يرى البلاء ضرّا فليس بعارف ؛ فإن العارف من يرى الضر على نفسه رحمة ، والضر على الحقيقة ما يصيب القلوب من القسوة والران ، والنعمة هي إقبال القلوب على الله ، ومن رأى النعمة على نفسه من حيث الاستحقاق فقد جحد النعمة.
__________________
(١) أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقا بحاله جديرا بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط في حقنا (نعمة منا) ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت. نظم الدرر (٧ / ٢٦٥).