(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣))
قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : بسط الحق في هذه الآية بساط عطايا ، وفجّر أبحر كراماته لعطاش الرحمة ، ورفع سجوف الغيرة عن أطباق الأسرار أي : إيش بكم عبادي ، مني تخافون ، ومن رحمتي تقنطون ، لا تخافوا ، ولا تحزنوا ؛ فإني أحببتكم في الأزل ، وحكمت بإجراء الذنوب عليكم ، وأنا عالم في الأزل بذنوبكم قبل وجودكم ، ولو كنت غضبان عليكم بذنوبكم ما أحببتكم ، في الأزل أجريتها عليكم ؛ لافتقاركم إليّ ؛ وعجزكم بين يديّ ، كيف يقدح ذنوب الأولين والآخرين على بحار رحمتي الواسعة ، وجميع الحدثان أقل من قطرة في بحار رحمتي! فأنا فتحت خزائن جودي يدخل عصيان جميع خلائقي في حاشية من حواشيها ، وهذه الآية من أعظم توجيه العباد جميعا ، يسلّي الله بها قلوب الخائفين الذين يحتشمون من دقائقه ، فيقول : لا بأس بكم ؛ فإني أغفر الصغائر والكبائر والأسرار والضمائر ، أطهركم عن الجميع ، وألبسكم أنوار رحمتي حتى تبقوا معي أبدا ، وتنظروا إلى وجهي الكريم بلا حساب ولا عتاب ولا حجاب ولا عذاب.
قال سهل : أمهل عباده تفضلا منه على آخر نفس ، فقال لهم : لا تقنطوا من رحمتي ، ولو رجعتم إلى بابي إلى آخر نفس لقبلتكم.
قال الجريري : أمر الله عباده ألا يعتمدوا أعمالهم ، ولا يقنطوا من التقصير فيها ؛ فإن الرعاية والعناية سبقت بالعبادة ، ألا تراه يقول : (قُلْ يا عِبادِيَ.)
وقال يحيى بن معاذ : في كتاب الله كنوز موجبة للعفو عن جميع المؤمنين ، منها قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ.)
(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥))
قوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) أي : ارجعوا بنعت التفريد عن غيره ، إليه خاشعين ، متضرعين مشتاقين إلى جماله ، مستحيين منه مما مضى في سالف الدهور عنكم بغير أنفاس مراقبة هلال جماله ، نادمين من ذلك ، وانقادوا له كالعاشق الواله المشغف الشائق المتضرع بين يدي معشوقه احتياجا منه إليه حين تدركونه بوصف الجلال والجمال