وقال الجنيد في قوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) : انقطعوا عن الكل بالكلية ، فما يرجع إلينا بالحقيقة أحد ، وللغير إليه أثر ، وللأكوان على سرّه خطر ، ومن كان لنا كان حرّا مما سوانا.
(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١))
قوله تعالى : (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي : ينجّي الله الذين تقدس أسرارهم من الالتفات إلى الحدثان في محبة الرحمن عن الحجاب والحرمان يوم الكشف والعيان ، (بِمَفازَتِهِمْ) (١) : بما كان لهم في الله في أزل أزله من محبتهم وقبولهم بمعرفته وحسن وصاله ودوام شهود جماله ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) أي : لا يلحق بهم في منازل الامتحان تفرقة عن مقام الوصلة وحجابا عن جمال المشاهدة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بفوت المراد في المعاد.
قال الواسطي : ينجيهم بما سبق لهم من الفوز ، (لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ) : زوال النعمة ، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على الفوات.
وقال القاسم : بسعادتهم السابقة وقضيته فيهم الماضية لهم وعليهم ، لا بنفوسهم المتعبة في العبادات.
وعن عليّ بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد قال : بسعادتهم القديمة صدق أكابر القوم في هذه الآية بأن نجاة الصديقين بالسعادة الكبرى مما يحل يوم القيامة على أهل الدعوى الذين ما شموا رائحة المقامات ، وما سلكوا مسالك المجاهدات ، وما أدركوا من لوائح أنوار المشاهدات ذرة ، فيفتضحون يوم القيامة عند وجوه الصادقين ، بقوله سبحانه : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) ، بل هم يفتضحون في الدنيا عند أهل معرفة الله.
قال يوسف بن الحسين : أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من ادّعى في الله ما لم يكن له بذلك ، وأظهر من أحواله ما هو خال عنها ، قال الله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.)
__________________
(١) بفوزهم ، مصدر ميمي ، يقال : فاز بالمطلوب : ظفر به ، والباء متعلقة بمحذوف ، حال من الموصول ، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب ، أي : ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم أو : بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا ، ولذا قرأ ابن عباس : (بمفازتهم بالأعمال الحسنة) البحر المديد (٥ / ٣٣٧).