فقد حكي من بعض السلف أنه قال : الكريم إذا قدر عفا ، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على حد الإفلاس والفقر ، لا أن يرى لنفسه مقاما في إحدى الدارين ، وهو أن يكون في الدنيا خاشعا لمن يذله ، ولا يلتفت إليه هاربا ممن يكرمه ويبره ، ويكون في الآخرة طالبا للفضل ، مشفقا من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم.
قوله تعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) أي : أفوض أمري في الدنيا والآخرة إلى الله فهو بصير بعجزي وضعفي عن رد القضاء والقدر ، وكمال التفويض ألا يرى لنفسه ، ولا للخلق جميعا قدرة على النفع والضر ، ويرى الله إيجاد الوجود في جميع الأنفاس بنعت المشاهدة والحال لا بنعت العلم والعقل.
وقال بعضهم : التفويض قبل نزول القضاء ، والتسليم بعد نزول القضاء.
وقال ذو النون حين سئل عنه : متى يكون العبد مفوضا؟ قال : إذا آيس من فعله ونفسه ، والتجأ إلى الله في جميع أحواله ، ولم يكن له علاقة سوى ربه.
قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) نصرة الرسل بالعرفان ، ونصرة المؤمنين بالإيقان ، وأيضا نصرة الرسل بالوحي ، ونصرة المؤمنين بالإلهام ، وأيضا نصرة الرسل برؤية الصفات ، ونصرة المؤمنين برؤية الآيات ، نصرتهم يوم الإشهاد على وفق سرهم في المعرفة ؛ فنصرة الرسل الوصلة ، ونصرة المؤمنين المشاهدة ، نصرهم على كل شيء يكاد يحجبهم عن المشاهدة في الدنيا والآخرة.
وقال جعفر : ينصر رسلنا بالمؤمنين ظاهرا ، وينصر المؤمنين بالرسل باطنا.
وقال سهل : أكرمهم بالمعرفة والعلم ، (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) بالرضا والرؤية.
وقال يحيى بن معاذ : لم يرض بما ضمن لهم من النصرة في الدنيا حتى ضمن لهم النصرة في القيامة ، ومن كان الله ناصره في الدنيا والآخرة ؛ فلا سوء عليه.
قوله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) ظلمهم وضع المعذرة في غير موضعها ؛ فإن معذرتهم أن يكون في الدنيا لا في الآخرة ، وظلمهم أيضا عدو لهم عن الحق إلى الحق ، يا ليت لو كان لهم عناية الأزلية التي تؤثر في الإحسان جميعا ، ومن لم يكن له سوابق القدم بنعت العناية لم يؤثر فيه الأعمال والأوقات.
قال بعضهم : يؤثر في العباد السوابق على الأوقات ، ولو كان للوقت أثر لنفع الظالمين معذرتهم ، فلما أخبر الله عنهم بقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) علمت أن السوابق هي المؤثرة لا الأوقات.