ومشاهدته ، وما أعلم ما حكم في الأزل علىّ ولا عليكم ؛ فإنه شاهد القلوب وعلام الغيوب ، أوجد من العدم بنور القدم ، ولا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي ، فهناك لجج تغيب في ذرة منها جميع الأرواح العاشقة والأسرار الوالهة والقلوب الحائرة ، وما أدري كيف يفعل بكم فيما جرى من السعادة والشقاوة في الأزل ؛ فإن علم العواقب عنده ، لا يطّلع عليه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل ؛ لأنه من علم ما استأثره لنفسه خاصة ، وليس لأحد منه نصيب إلا لمن أظهر له شيئا منه ، كقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ.)
قال سهل : ما كنت عجيبا في المرسلين ؛ فإني لم أدعوكم إلا إلى التوحيد ، ولم أدلكم إلا على مكارم الأخلاق ، وبهذا بعث الأنبياء وصلىاللهعليهوسلم قبل.
قال الواسطي في قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : إن الله تعالى ستر أمر الروح على جميع خلقه ، وستر ماهيته ذاته ، وستر ما يعامل به الخلق عند معاينته فقال : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ.)
(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) : ما قال القوم هذا القول حتى شاهدوا بقلوبهم وعقولهم وأرواحهم وأسرارهم مشاهدة الحق سبحانه ، فإذا رأوه قالوا : (رَبُّنَا اللهُ) ، كطلاب الهلال سكتوا في طلبه ، فإذا رأوه يقولون : هذا الهلال ، وصاحوا ، وصفقوا ، وضحكوا لهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم ، فلما رأوه أحبوه ، وعرفوه ، وشربوا من بحار وصاله وجماله وجلاله شربات المحبة والشوق ، وتمكنوا شربها حتى استقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الآزال والآباد ، واستقاموا في مراد الله منهم ، وأداء حقائق عبوديته ، فلا يتبقى عليهم خوف الحجاب ولا حزن العتاب ، قال الله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣).
قال ابن طاهر : استقاموا على ما سبق منهم من الإقرار بالتوحيد ، فلم يروا سواه منعما ، ولا شكروا سواه في حال ، ولا رجعوا إلى غيره ، وثبتوا معه على منهاج الاستقامة.
وقال جعفر : استقاموا مع الله بحركات القلوب مع مشاهدات التوحيد.
وقال بعضهم : أفردوا الله بالملك والربوبية والقدرة ، واستقاموا على هذه الشروط ، فلم يخالفوه.