الحدث في بقاء الحق أعظم الذنوب ، وأيضا إذا دعاه إلى العلم بوحدانيته وقع له عليهالسلام أنه يعلم الحق بالحقيقة في سرعة شوقه إليه ، وكمال محبته له ، فعرفه الحق موضع خاطره في شوقه أنه لا يمكن ذلك ، وهو مستحيل ، وهو ذنب ، فأمره بالاستغفار منه بنعت عرفانه عجزه عن درك حقائق وجود القدم ، وأيضا ألبس روح محمد المصطفى صلىاللهعليهوسلم نورا من نور علمه ، جعله عالما بعلمه ، ومتصفا بصفته ، فلما باشر ذلك النور نور روحه وتجلى الحق لسره من عين علمه صار عالما بعلم الحق على الحق ، فلما وجده بهذه المثابة دعاه إلى العلم بحقيقة أحديته بنعت زوال الشواهد والجواهر والأعراض ، والنظر إلى الأفعال وطلب الصفة إلى الذات بالحق إلى الحق ليعلمه ، فحار سرّه في ميادين الأزل والأبد ، واستغرق في بحار أولية روحه وسره ، ولم يدركه ، وكلما وجد علما فني في علم آخر ، وذهب العلم الأول في العلم الثاني ، فلما وجده الحق عاجزا عن دركه أمره بالاستغفار ؛ لما فيه من بقايا وجوده في مقام الاتصاف ، فإن في الاتصاف بقي العبد ، وبقاء العبد في الاتصاف حجاب الاتصاف ، فإذا بقي وجوده يحتجب به عن الإدراك ، فإذا لم يبق بقي الحق ، وهو عالم بنفسه أزلا وأبدا ، فوجوده تكلف في البين ؛ إذ الحق عالم به لا هو ، فأمره الحق بالاستغفار عن بقائه في الاتصاف ، فإنه ذنب عظيم ؛ إذ به محتجب عن مقصوده ، لذلك عرف حاله صلوات الله عليه ، وقال : «إنّه ليغان على قلبي ، وإنّي لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» (١) ، ومن وقع في هذا البحر فقد وجب عليه في كل نفس ألف استغفار ؛ لأن في أول الحال فرح بوجدان المقام والسكون إلى المقام ، فلما انكشف إليه مزيد القرب والمعرفة عن الأول وقد وجب عليه الاستغفار من الفرح به والوقوف عليه ، ولذلك قال الجنيد : اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا علمتنا ، وإياك أن ترى نفسك في علمك ، فإن خطر بك خاطر غيره فاستغفر من خاطرك ، فلا ذنب ولا خطرة أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا ولو في خطرة ونفس.
__________________
ـ فكونها مرتبة التعلّق ؛ تحتاج إلى ذلك ؛ ولذا لمّا خلقه الله تعالى ، وهو أول المبدعات قال : (لا إله إلا الله) ، ولم يقل : وأنا العبد ؛ لأن تلك المرتبة ليست مرتبة العبودية ؛ بل مرتبة الحامدية بلسان الروح ، ولمّا وقع المعراج ، ودخل على الله تعالى قال : (لا إله إلا الله أنا العبد) فأثبت العبودية حينئذ لما يقتضيه الموطن ، فلكل من المواطن اعتبار غير اعتبار الآخر ، ولمّا كانت الألوهية من الإضافات ؛ لأنها تقتضي ألوهية العبد ؛ وقع عليها العلم الذي هو نسبة من النسب أيضا ، وليس فوق مرتبة العلم والألوهية إضافة أصلا ؛ لأن ما فوقها ذات بحت لا اسم هناك ، ولا رسم ، ولا وصف ، فإلى مرتبة الألوهية ينتهي علوم العلماء ، ومكاشفة المكاشفين ، ومن ثمّ حكم على العالم ؛ بل المكاشف أيضا بالحيرة لكنها هي الحيرة الممدوحة الناشئة عن علم وتجلّي ، لا عن جهل واحتجاب ، والله الهادي إلى عين ذاته.
(١) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥) ، وأبو داود (٢ / ٨٤).