كما قال صلىاللهعليهوسلم : «للقرآن ظهر وبطن وحدّ ومطلع» (١) ، إن الأعمى ههنا من طمسته سبحات وجهه حين عاين لقلبه وروحه ظهر عماه ، إذ لا يرى غير الله ، وعماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطون الأزل والغيب وغيب الغيب ، وهذا سرّ قوله عليه الصلاة والسلام في وصف جمال الحق : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (٢) ، فجعله معذورا ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق ؛ إذ يستحيل أن يحيط الحدث بالقدم ، وإن كان واجبا معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد ، وأيضا هو معذور باستعمال الرخص والدخول في الرفاهية ، والأعرج من عرج سره وروحه من السير في ميادين الأزلية والأبدية ؛ إذ كان عرجا بضرب سيوف الوحدة ووصول إعجاز القهريات ، أي : هو معذور حين جلس على بساط الأنس ، ولم يسر في ميادين القدس ، فإن هناك طوفان الكبرياء وسطوات العظمة والبقاء ، وهذا الأعرج معذور ؛ إذ لم يأت من مقام المشاهدة إلى مقام المجاهدة ، والمريض هو الذي أسقمته محبة مشاهدته ورؤية جماله ، فهو معذور ؛ إذ باشر الروحانيات مثل السماع واستعمال الطيب والنظر إلى المستحسنات ، فإن مداواته تكون أيضا من قبيل العشق والمحبة ؛ لأن العشق أمرضه ، فأيضا يداويه بالعشق كما قيل :
تداويت من ليلى بليلي من الهوى |
|
كما يتداوى شارب الخمر بالخمر |
فهؤلاء أهل المشاهدات لا أهل المجاهدات والرسومات.
قال الأستاذ : من كان له عذر في المجاهدة مع النفس ؛ فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه.
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ
__________________
(١) رواه ابن المبارك في الزهد (١ / ٢٣).
(٢) تقدم تخريجه.