ومجلس الأقرب ، هناك ينكشف أنوار الألوهية وسناء القدوسية ، فيكحل عيون الكل ضياء مشاهدته ، فيذهب من البين الدليل والاستدلال والمخاييل والمحال والإيمان والإيقان ، بل يبقى العيان والعرفان أبدا ، وهذا كما قال السيد الضرغام الأمير الهمام علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» (١).
قال الواسطي : من كشف عنه خطأ الغفلة أبصر الأشياء كلها في أسر القدم.
وقال أيضا : أي : علمك نافذ في المقدورات ، وحكمك ماض على الخلائق.
(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))
قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : لا يتغير قولي الذي سبق في الأزل بحسن العناية في اصطفائية أنبيائي وأوليائي إلى الأبد ، ولا أسقطهم عن درجتهم التي اخترتها لهم في الأزل ؛ إذ استحال مني كون الظلم ، وأيضا أي : لا تغير الأقوال عند اطلاعي بها ، ولا يقدر أحد على أن يخفى إصدار كلامه عني ما في ضميره ، قال الله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، والكون ملكي أتصرف فيه كما أشاء ، ولا يرجع إليّ ظلم ولا جهل ؛ إذ هما من أوصاف الحدث ، وأنا منزّه عن أوصاف الحدثان.
قال سهل : ما يتغير عندي حكم قد سبق علمي فيه ، فيكون بخلاف ما سبق العلم.
وقال ابن عطاء : ما يظهر في الوقت هو الذي قضينا في الأزل لا مبدل له.
وقال الأستاذ : لا تبديل لحكمي ولا تغيير لقضائي ، وما أنا بظلام للعبيد ، وتصرفي فيهم تحت ملكي ، فلي كل ما أفعله ، ولا مني ظلم ؛ لأن الظلم ترك الأمر ، وهو ليس بمأمور.
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١))
قوله تعالى : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) : إن الله سبحانه وعد جهنم أن يملأها من الجن والإنس ، فيملأها ثم يقول : هل امتلأت ، وهي تستزيد ؛ لأن ما يلقى فيها كحلقة تلقى في اليم ، وإن جهنم تشتاق إلى الله كما تشتاق إليه الجنة ، فإذا رأى الله سبحانه حالها من الشوق إليه يضع أثقال سطوات قهر القدم عليها بنعت تجل ، فتملأ من العظمة ، وتصير عند عظمة الله كلا شيء في شيء ، ويا رب طبب في قلوب الجهنميين في تلك السّاعة من رؤية ظلال عظمته ، ومن رؤية أنوار قدم القدم ، لهم فيها زفير وشهيق ، فحينئذ
__________________
(١) رواه أبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٠٣).