ولم يذكر العين ؛ لأن رؤية العين سرّ بينه وبين حبيبه ، ولم يذكر ذلك غيرة عليها ؛ لأن رؤية الفؤاد عامّ ورؤية البصر خاصّ ، أراه جماله عيانا ، فرآه ببصره الذي كان مكحولا بنور ذاته وصفاته ، وبقي في رؤيته بالعيان ما شاء الله كان ، فصار جسمه بجميعه أبصارا رحمانية ، فرأى الحق جميعا ، فوصلت الرؤية إلى الفؤاد ، فرأى فؤاده جمال الحق ، ورأى ما رأى بعينه ، ولم يكن بين ما رأى بعينه ، وبين ما رأى بفؤاده فرق ، فأزال الحق الإبهام ، وكشف العيان بقوله : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) حتى لا يظن الظانّ أن ما رأى الفؤاد ليس كما رأى بصره أي : صدق قلبه فيما رآه من لقائه الذي رأى بصره بالظاهر ؛ إذ كان باطن حبيبه صلىاللهعليهوسلم هناك ظاهرا ، وظاهره باطنا رآه بجميع شعراته وذرات وجوده ، وليس في رؤية الحق حجاب للعاشق الصادق ، بأنه يغيب عن الرؤية شيء من وجوده ، فبالغ الحق سبحانه في كمال رؤية حبيبه صلىاللهعليهوسلم ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : «رأيت ربّي بعيني وبقلبي» (١) ، رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه.
قال سهل : ما كذب الفؤاد ما رأى البصر.
وقال : هو في مشاهدة ربه كفاها يبصره بقلبه.
قال ابن عطاء : ما اعتقد القلب خلاف ما رآه العين.
وقال : ليس كل من رأى مكن فؤاده من إدراكه ؛ إذ العيان قد يظهر فيضرب السر عن حمل الوارد عليه.
والرسول صلىاللهعليهوسلم محمول فيها من فؤاده وعقله وجسمه ونظره ، وهذا يدل على صدق طويته وحمله فيما شوهد به ، ثم أكد الله تحقيق رؤية نبيه صلىاللهعليهوسلم ووبخ منكريها بقوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) ، ما الرؤية الثانية أقل كشفا من الرؤية الأولى ، وما الرؤية الأولى بأكشف من الرؤية الثانية أين أنت؟ لو كنت أهلا لقلت لك أنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه في لحافه بعد أن رجع من الحضرة أيضا في تلك الساعة ، وما غاب قلبه من تلك الرؤية لمحة ، وما ذكر سبحانه بيان أن ما رأى في الأول في الإمكان ، وما رأى عند سدرة المنتهى كان واحدا لأن ظهوره هناك ظهور القدم والجلال ، وليس ظهوره يتعلق بالمكان ولا بالزمان ؛ إذ القدم منزّه عن المكان والجهات ، كان العبد في مكان والرب فيما لا مكان ، وهذا غاية كمال تنزيهه وعظيم لطفه ؛ إذ يتجلى من نفسه لقلب عبده ، وهو في لا مكان والعبد في مكان ، والعقل هاهنا مضمحلّ ، والعلم متلاش ، والأفهام عاجزة ، والأوهام متحيرة ، والقلوب والهة ، والأرواح حائرة ، والأسرار فانية ، وفي هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه عليه
__________________
(١) هو من الأحاديث التي ذكرها المصنف في كتبه.