الصلاة والسلام ؛ إذ رآه نزله أخرى عند سدرة المنتهى ، ظن عليه الصلاة والسلام أن ما رآه في الأول لا يكون في الكون لكمال علمه بتنزيه الحق ، فلما رآه ثانيا علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان ، وعادة الكبرياء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان كريما ، فهذا من الله سبحانه إظهار كمال حبه لحبيبه صلىاللهعليهوسلم ، وحقيقة الإشارة أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس ، فلبس الأمر ، وظهر المكر ، وبان الحق من شجرة سدرة المنتهى كما بان من شجرة العتاب لموسى ؛ ليعرفه حبيبه عليه الصلاة والسلام بكمال المعرفة ؛ إذ ليس بعارف من لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة ، وبيان ذلك.
(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢))
قوله سبحانه : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) : وأبهم ما غشيه ؛ لأن العقول لا تدرك حقائق يغشاها ، وكيف يغشاها والقدم منزّه عن الحلول في الأماكن ، كان ولا شجرة ، وكانت الشجرة مرآة لظهوره سبحانه سبحانه ، وألطف ظهوره : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) بعد عرفانهم به ، ثم وصف حبيبه بأنه ما التفت إلى غيره من الجنان والملكوت في رؤية جلاله بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : ذكر هذه الآية إلى الرؤية الثانية ؛ لأن في الرؤية الأولى لم يكن شيء دون الله ؛ لذلك ما ذكر هناك غضّ البصر ، وهذا من كمال تمكين الحبيب في محل الاستقامة وشوقه إلى مشاهدة ربه ؛ إذ لم يمل إلى شيء دونه ، وإن كان محل الشرف والفضل.
قال الواسطي في قوله : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) : أفتشكّون في دنو مقامه منا وقربه ، ولا يشكّ في دنوه إلا من هو محجوب عن علو محله ومرتبته.
وقال بعضهم : ما يرى منا بنا ، وما يرى منا بنا أفضل مما يراه منا به.
وقال الواسطي : إلى سدرة المنتهى يبلغ كشف الهموم إلا لرجل واحد ، وهو الذي دنا فتدلى ، مر على سدرة المنتهى ، (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى.)
وقال سهل في قوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : لم يرجع محمد صلىاللهعليهوسلم إلى شاهد نفسه ، ولا إلى مشاهدتها ، وإنما كان مشاهدا بكليته لربه تعالى ، يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل ، ثم بيّن الله سبحانه أراه من آياته العظام ما لا يقوم برؤيتها أحد سوى المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، وذلك بعد أن ألبسه قوة الجبارية الملكوتية بقوله : (لَقَدْ رَأى مِنْ