العاشق العارف أين هو؟ فترى الحق ، ويفنى هو في الحق ، ومن ذلك القرب والدنو عبّر الحق بقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، ولكن بين البحرين حاجز امتناع عزة وحدانيته بحيث لا يختلط القدم بالحدث ؛ لأنه منزّه عن الحلول في الأماكن ، والاستقرار في المواطن ، وذلك قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي : برزخ أعظم من تنزيه قدمه من تناول الحدث ، ومع الحدث برزخ الحدوثية ، يحتجب به عن الوصول إلى حقيقة ذاته ، وعيون صفاته ، بل يستمتع بالنظر إلى جماله ، وكشف تجلّي جلاله ، بحر القدم عذب من حيث القدس ، وبحر الحدث ملح من حيث علل الحدوثية ، فلمّا تمرح بها جلاله بنعت التجلي صارت عذبا فراتا ، من حسن مجاورتها :
تكون أجاجا دونكم ، فإذا انتهى |
|
إليكم تلقى طيبكم ، فيطيب |
وما ذاك إلّا حين خبّرت أنّه |
|
يمرّ بواد أنت منه قريب |
وتصديق هذه المعاني تجليه لجبل الطور ، ومن الشجرة لموسى ، وهناك مقام عين الجمع ، انظر إلى البحرين : بحر الحدث ، وبحر القدم كيف لا يخلتطان! والحدثان بأسرهما من العرش إلى الثرى كقطرة فانية في قلزم بحار أزليته ، وديمومته يخرج من بحر جلاله جواهر العلوم اللّدنية ، وأسرار الحكمية للعقل والقلب ، وتخرج من بحر الروح جواهر المعرفة ولآلئ المحبة ، وإن كان الكل من بحره خرج ؛ لأن بحره موجد البحار ، وما يخرج من بحر وجوده يكون قديما مثل القرآن ، والأسماء ، والنعوت ، وما يخرج من بحر الروح المالحة بعلة الحدوث ، وما يتعلق بالحدوثية من العلم والمعرفة والفطنة.
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))
قال الله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) : وأيضا إذا نزلنا من هذا المقام بحر أذيان المعاني إلى عالم الأماني ، فنقول بالبحرين : بحر القلب والنفس في القلب بحر الأخلاق المحمودة ، والمقامات العلية الشريفة ، ولطائفات المعرفة ، والمحبة ، والنفس بحر الأخلاق المذمومة من الظلم ، والضلالة منبع بحر القلب من عالم لطفه ، ومنبع بحر النفس من عالم قهره ، وهما لا يختلطان أحدهما بالآخر ؛ إذ لا تصير النفس قلبا ، ولا يصير القلب نفسا ؛ لأن بينهم برزخ العقل والعلم والشريعة والطريقة ، ولؤلؤهما ومرجانهما هاهنا الإيمان والإتقان والصفاء والنور والطمأنينة ، فهذه الجواهر تخرج من بحر القلب ، فإذا صارت النفس مطمئنّة فأيضا جواهر بحرها من أضعاف بحر العلوم المجهول ، وهي مواضع الأسرار.
قال سهل بن عبد الله : أحد البحرين القلب ، فيه أنواع الجواهر ، فيه جوهر الإيمان ،