وجوهر المعرفة ، وجوهر التوحيد ، والبحر الآخر النفس ، فيها صفوف الرذائل ، فيها الحقد الحسد ، والكبر ، والبخل ، والغضب ، (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١) التوفيق ، والعصمة والخذلان ، والنقمة.
وقال ابن عطاء : بين العبد وبين الرب بحران عميقان أحدهما : «بحر النجاة» ، وهو القرآن من تعلّق به نجا ؛ لأن الله تعالى يقول : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) ، و «بحر الهلاك» : وهو الدنيا من ركن إليها هلك.
وقال الأستاذ : خلق في القلوب بحرين : «بحر الخوف» ، و «بحر الرجاء».
ويقال : القبض والبسط.
ويقال : الهيبة والأنس.
فتخرج منها الجواهر من الأحوال الصافية ، والّلطائف المواتية.
ويقال في الإشارة : البحران النفس والقلب ، فالبحر العذب القلب ، والمالح النفس ، ومن بحر القلب كل جوهر ثمين ، وكل حالة لطيفة ، ومن النفس كل خلق ذميم ؛ فالدّر من أحد البحرين يخرج ، ومن الثاني لا يكون إلا التمساح ، وما لا قدر له من سواكن النفس ، بينهما برزخ لا يبغيان يصون الحق هذا من هذا ، ولا يبغي هذا على هذا.
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨))
قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٢٦) : لو نظرت بنظر التحقيق في الكون وأهله ، لرأيت حقيقة فنائه وفناء أهله ، وإن كان في الظاهر على رسم الوجود ؛ لأن من يكون قيامه بغيره فهو فان في الحقيقة ؛ إذ لا يقوم بنفسه ، وكيف الحدث يقوم بنفس ولا نفس له في الحقيقة؟! فإن الوجود الحقيقي وجود القدم ، لذلك أثنى على نفسه بقوله تعالى :
(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) : وحقيقة البقاء لمن لا يزال باقيا قديما ، ومن كان أوله عدما وآخره عدما وجوده بخلاف من كان أوله قدما وآخره بقاء ، فإذا شاهدت مشاهدة الحق ترى الحق قائما بنفسه ، وترى الأشياء قائمة به ، فقد علمت هناك حقيقة الفناء والبقاء ، وحقيقة الوجود والعدم.
__________________
(١) فإذا هبت رياح العناية من مهب الهداية وتموج البحران فيتلاشى البرزخ باصطكاك البحرين ويصير الكل بحرا واحدا وهو بحر لا إله إلا هو إليه المصير فإذا كان إليه المصير ، فقد طاب المسير ، تفسير حقي (١٢ / ٣٤٨).