عرّف الله سبحانه قدمه وبقائه خلقه بفناء الدنيا وأهلها ؛ ليتحققوا في معرفته ؛ لأن من دخل في البقاء بغير دخوله في الفناء لم يعرف حقيقة البقاء.
سئل الجنيد عن قوله : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) قال : من كان بين طرفي فناء فهو فان ، وذكره جلاله ووجهه الباقي تسلية لقلوب المشتاقين ، وترويحا لفؤاد الموحدين والعارفين ، أي : أنا أبقى لكم أبدا لا تغتمّوا ، فإن لكم ما وجدتم في الدنيا من كشف جمالي ، ويتسرمد ذلك لكم بلا حجاب أبدا ، أيها العاشقون استبشروا ببقائي ، وافرحوا بلقائي ، وفيه دقيقة وإشارة إلى حبيبه أي : كلهم استمتعوا بتجلياتي ، وكشف الوجه باق لك أبدا ، رأيت وجهي خاصة لك ، ثم العشاق أتباعك في النظر إلى وجهي ، فأول الكشف لك ثم للعموم ، فذكر الوجه خاصة وهو صفة خاصة لأهل الخصوص ، وإن كان وجود القدم جميعه وجها ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله تعالى يتجلّى لأبي بكر خاصة ، ويتجلّى للمؤمنين عامة» (١) ، وذكر الجلال تهيج لأهل المحبة والهيمة.
قال الواسطي : الذي أخفى من شاهده للخاصة لا يظهره للعوام ، فسئل : أفرق بين الدارين؟ قال : نعم ، أعطاهم في الدنيا على السرائر ، وأعطاهم في الآخرة على الظواهر ، استتر في الدنيا بما أظهر من عجائبه ، واستتر في الآخرة بما أظهر على أقدارهم ، وهو الذي لا يطيقه الخلق إلا على من تولّاه بإسبال تغييبه عن شاهده ، نظرت يا فهم في مقام التوحيد إلى تلاشي الكون في ظهور جلال وجهه تعالى ، ورأيت فناءه في بقائه حين ظهر ؛ وذلك لغلبة سلطان إشراق نور القدم على وجود الحدث ، وذلك حين غاب العارف في المعروف ، ولا يدري أين هو؟ إذ لا أين ، ولا هو إلا هو.
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ
__________________
(١) رواه الحاكم في المستدرك (٣ / ٨٣) بنحوه.