إياهم رداء عظمته ، وتعظيمهم في عيون الكفرة والأضداد ، حتى فزعوا من رؤوسهم ، ولو أنهم تحققوا في معرفة الله لخافوه ولم يخافوا غيره ، فلما لم يصلوا إلى معرفة الله صارت أقدار الخلق أعظم من قدر الله في قلوبهم ، وذلك قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي : لا يعرفون عظمة الله وقدرته ، فزعهم ، وخوّفهم بالواسطة من الله ، وهم لا يفقهون أن ذلك الخوف من لباس عظمة الله عليهم ، فما داموا لم يكونوا من أهل رؤية عظمته صرفا ألجأهم الفزع منه بالواسطة.
قال الواسطي : لا يفقهون أن في ترك الدنيا مشاهدة الآخرة ، وفي مشاهدة الآخرة رفض الدنيا ، كما أن في مشاهدة الثانية وحضوره زوال عزة النفس ، وفي مطالعة صفات الله سقوط صفات العبد ، وملاحظة الحق لا يقاربها حب الدنيا ، ولا عزة النفس ، ولا رؤية الأفعال ، ولا رؤية الصفات ، فما دامت الشواهد والأعراض على سره أثر لم يفقهه ، ألا ترى الله يقول : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) ، والحق إذا تجلّى لقلب عبد أذهب عنه أخطار الأكوان وأهلها.
(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))
قوله تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) : وصف الله قلوب المخالفين بالتشتت والتفرق في نياتهم وقصودهم وأرائهم ، بأنهم لا يرشدون طرق المآب إلى الله ، ولا يتوافقون بقلوبهم ، وإن توافقوا بأبدانهم ، وتلك التفرقة من عينهم عن رؤية محل الصواب.
قال سهل : أهل الحق مجتمعين أبدا موافقين ، وإن تفرّقوا بالأبدان ، وتباينوا بالظواهر ، وأهل الباطل متفرّقين أبدا ، وإن اجتمعوا بالأبدان ، ووافقوا في الظواهر ؛ لأن الله يقول : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى.)
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩))
قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) : حذّر الله المؤمنين مما قبل هذه الآية بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) ،