من تضييع العبودية والتفريط في مباشرة الشهوات التي حجبتهم عن الله ، ثم زاد التخويف في الآية الثانية ، وأمرهم بألا يكونوا كالذين نسوا الله ؛ حيث اشتغلوا بنفاذ شهواتهم ، وطلبهم حظوظ أنفسهم من رؤية الملكوت ، ونسوا طيب العيش مع الله وروح الأنس في مشاهدة الله ، وسكنوا منه بحظوظ النفس ، فلما وجدهم الله ساكنين عنه مشتغلين بغيره ، فأنساهم أنفسهم ؛ حيث لا يعرفونها ، ولا يعرفون طريق رشدها ووصولها إلى معادن الأول ، ولا يرشدهم طريق المآب إليه ، وأي شيء أعظم شقاوة ممن احتجب بنفسه عن الله.
قال سهل : نسوا الله عند الذنوب ، فأنساهم الله الاعتذار وطلب التوبة ، وقد وقعت لي نكتة : بأن الإشارة في الحقيقة إلى المتّحدين والمتّصفين الذين غلب عليهم سكر الأنائية ، ورأوا وجودهم في عين الجمع ، فمن حدة السكر خرجوا بدعوى الأنائية ، وذلك بأن رؤية الصفة فيهم غلبت على رؤية الذات ، فبقوا في رؤية الصفات عن رؤية الذات ، ثم وقعوا في نور الفعل ، وبقوا عن رؤية الصفة ، فطابت قلوبهم بالشطارة ودعوة الأنائية ، وهذا مقام المكر ، فلما سكنوا في هذا المقام ولم يرتقوا إلى مدارج الفردانية أنساهم الله أنفسهم الحديثة حتى لم يروها في البين ، فبقوا بأنائيتهم عن رؤية الحق ، ولولا إنساء الله إياهم أنفسهم لوجدوا مقام العبودية أعلى مما هم فيه ؛ إذ فيه إفراد القدم عن الحدوث وحقيقة صرف التوحيد ، وهو مقام النبي صلىاللهعليهوسلم ، حين عبّر عن هذا المقام ولم يتعلق ذيل همته بحظ الالتباس والمحبة ، ووصل إلى رؤية الأحدية ، واختيار العبودية بقوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١).
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))
قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أصحاب النار في الحقيقة أصحاب المجاهدات الذين احترقوا بنيرانها ، وأصحاب الجنة أصحاب المواصلات الذين وقعوا في روح المشاهدات ، وفي الظاهر أصحاب النار أصحاب النفوس والأهواء الذين أقبلوا على الدنيا ، وأصحاب الجنة أصحاب القلوب والمراقبات.
قال الحسين : «أصحاب النار» : أصحاب الرسوم بالعادات ، و «أصحاب الجنة» : أصحاب الحقائق والمشاهدات.
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))
قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ
__________________
(١) تقدمت الإشارة إليه.