اللهِ) : في هذه الآية بعض العتاب مع أهل المآب ، بأنهم لا يذوبون تحت موارد الخطاب الأزلي ، ولا يفنون في مشاهدة الصفات ، ولا يرونها عين الذات ، فإن من حقه أن يكون المخاطب بعد متابعة فانيا عن نفسه وعن الكون فيه ، ولو كانت الجبال مقامة في الخطاب لتدكدكت الجبال ، وتدرّرت ، وانفلقت الصخور الصم ، وانهدمت الشامخات العاديات في سطوات أنواره ، وهجوم سنا أقداره ؛ إذ كل حرف من خطابه أعظم من العرش والكرسي والجنة والنار والأكوان والحدثان ، وذلك بأنها عرفت حقيقته ، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم ، حيث قال سبحانه : (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) ، «ظلمه» قيامه بإزاء القدم ، و «جهله» : قلة معرفته بحقائق العبودية والربوبية ، ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أن الجبال ليس لها عقل ، فإنّ هناك أرواحا وعقولا لا يعلمها إلا الله ، قال الله : (يا جِبالُ أَوِّبِي) ، لولا هناك ما تقبل الخطاب لما خاطبها ، فإن ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله ، قال الله : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، والخشية مكان العلم بالله وبخطابه ، وفيه إشارة أخرى في بيان شرف النبي صلىاللهعليهوسلم وأمته ، بأنهم حملوا ما لم تحمله الجبال بقوتها ، هم يحملونه بذوق الخطاب ، وكشف النقاب ، والسرور بالمآب ، فإنهم حملوا بهذا الوجه عظائم كلمات ، لو حملتها الجبال الشامخات لذابت في رياحها ، كما قيل :
ولو أن ما بي بالحصا فلق الحصا |
|
وبالريح لم يسمع لهن هبوب |
قال ابن عطاء : أشار إلى فضله بأوليائه ، وأهل معرفته أن شيئا من الأشياء لا يقوم بصفاته ، ولا يبقى مع تجلّيه إلا من قوّاه الله على ذلك ، وهو قلوب العارفين ، فقاموا له به لا بغيره ، وهو القائم بهم لا هم وهكذا.
قال الأستاذ : ليس هذا الخطاب على وجه العتاب معهم ، بل هو على سبيل المدح وبيان تخصيصه إياه بالقوة ، فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) ، لم يطق ، ولنخشع ، وهؤلاء خصّصتهم بهذه القوة حتى أطاقوا سماع خطابي.
(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))