قال ابن عطاء : علما بربه ، وعلما بنفسه ، وأثبت لهم علمهم بالله علم أنفسهم ، أثبت لهم علمهم بأنفسهم حقيقة العلم بالله ، لذلك قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (١).
ثم بيّن سبحانه أنهما مخصوصان بما ذكرنا من علوم الحقائق ، وكل واحد منهما مخصوص بعلم من الله فورث سليمان علم أبيه الذي علمه الله من علوم الإلهية بقوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ورث ما عند أبيه من علم العشق والمحبة والشوق وخصائص سره زيادة على ما علمه الله ، والولي الصادق العارف يرث من شيوخه علوم الحقائق بعد كونه مستعدا لذلك ، فيصير تلك الحقائق مقاماته إذا كان صادقا مستقيما في الإرادة ، لذلك قال عليهالسلام : «العلماء ورثة الأنبياء» (٢).
قال ابن عطاء : ورث منه صدق اللجوء إلى ربه ، وتهمة نفسه في جميع الأحوال.
ثم بيّن سبحانه أن سليمان أخبر الخلق عما وهبه الله من علمه بمناطق الطيور بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ؛ لأن المتمكن إذا بلغ درجة التمكين يجوز له أن يخبر الخلق بما عنده من موهبة الله لزيادة إيمان المؤمنين ، والحجة على المنكرين ، قال تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] ، وافهم أن أصوات الطيور والوحوش وحركات الأكوان جميعا هي خطابات من الله سبحانه للأنبياء والمرسلين والعارفين والصديقين والمحبين يفهمونها من حيث أحوالهم ، ومن حيث مقاماتهم ؛ فللأنبياء والمرسلين علم بمناطقها صرفا قطعيّا ، ويمكن أن ذلك يقع لولي ، ولكن أكثر فهوم الأولياء بها أنهم يفهمون من أصواتها ما يتعلق بحالهم بما يقع في قلوبهم من إلهام الله لا بأنهم يعرفون لغاتها بعينها ، وفي إشارة الحقيقة الطيور الأرواح الناطقة في الأشباح ينطق بالحق من الحق ، ونطقها تلفظ رموز الأسرار بلغة الأنوار ، ولا يسمعها إلا ذو فراسة صادقة قلبه وعقله شاهدان مشاهدة الحق ولطف الإشارة ، علمنا مناطق أطيار الصفات التي تعبر علوم الذات ، وأيضا علمنا منطق أطيار أفعاله التي تخبر عن بطون حكم الأزليات ، لذلك قال : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي : أوتينا كل شيء علما بالله ، وطريقا إلى الله (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) إخبار عن رؤية المتفضل في فضله غير محجوب بالفضل عن المتفضل.
__________________
(١) ذكره المناوي في «فيض القدير» (١ / ٢٢٥) ، والعجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٣٤٣).
(٢) رواه البخاري (٦٨) ، وابن حبان (١ / ٢٨٩).