قال أبو عثمان المغربي : من صدق مع الله في جميع أحواله فهم عنه كل شيء ، وفهم عن كل شيء فيكون له في أصوات الطيور ، وصرير الأبواب علما بعلمه وبيانا بتبيينه.
قال الأستاذ : من كان صاحب بصيرة ، وحضور قلب بالله يشهد الأشياء كلها بالله ، ومن الله ليكون مكاشفا بها من حيث الفهم ؛ فكأنه يسمع من كل شيء ، وتعريفات الحق سبحانه للعبد بكل شيء من كل شيء لا نهاية له ، وذلك موجود فيهم محكي عنهم ، وكما أن صوت الطبل مثلا دليل يعرفون لسماعه وقت الرحيل والنزول ، فالحق سبحانه يخص أهل الحضور بفنون التعريفات من سماء الأصوات ، وشهود أحوال المرئيات في اختلافها كما قيل :
إذ المرء كانت له فكرة |
|
ففي كلّ شيء له عبرة |
وما قاله الأستاذ ـ رحمة الله عليه ـ دليل على قول خادمه : نشقني الله ما نشق أولياء وأنبياءه ، فقد أشرط أن أصوات الطيور والوحوش وغيرها لا يعرف نعتها ومعينها إلا الأنبياء والأولياء ، يعرفون معناها بغير نعتها ، وهذا كما قال أهل التفسير في قوله : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها.
وقال مقاتل : كان سليمان عليهالسلام جالسا إذ مرّ به طير يصوت ، فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول هذا الطائر الذي مرّ بنا؟ قالوا : أنت أعلم ، فقال سليمان : فإنه قال لي : السلام عليك أيها الملك المسلط على بني إسرائيل أعطاك الله سبحانه الكرامة ، وأظهرك على عدوك ، إني منطلق إلى فروخي ، ثم أمر بك الثانية ، وأنه سيرجع إلينا الثانية ، فانظروا إلى رجوعه ، قال : فنظر القوم طويلا إذ مرّ بهم ؛ فقال : السلام عليك أيها الملك ، إن شئت أن تأذن لي كي ما أكسب على فروخي حتى يشبعوا ثم آتيك فافعل ما شئت فأخبرهم سليمان بما قال فأذن له.
وقال فرقد السبخي (١) : مرّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ، ويميل ذنبه ؛ فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ فقالوا : الله ونبيه أعلم ، فقال : يقول : أكلت نصف تمرة فعلى الدنياء العفاء ، فهذا وأمثالها معروف من سليمان ومن نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وذلك معجزة فوق الكرامة ، ومما خصّ الله سليمان به العلم بنطق النملة والحشرات ؛ ليكون أدق في الفهم وأرق للسمع لكن صورة النملة وحركاتها بغير صوتها من حقائق الأفعاليات ، خطاب من الحق للأولياء والصديقين ، فلما لطف الأمر بعد قوله (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا) ، وعرف قولها هاج سره إلى مزيد الشكر ، وقال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) سأل لسان الشكر من الحق ؛ فإنه كان عالما بأن شكره لا يمكن إلا به ، وقوله : (وَأَنْ أَعْمَلَ
__________________
(١) فرقد السبخي أبو يعقوب العابد ، مات سنة ١٣١ ه.