الأزل ، وعلى صورة الظاهر نكتتها أن سليمان أحب الهدهد ؛ لأنه رأى ذلك الهدهد في مكان العشق ، ورأى عليه آثار العشق ؛ فاستأنس به ، وكان للهدهد خاصية أنه عرف مواقيت صلاته ، ورأى الماء بين الطين والحجر ، وكان يدل الجن على الماء لوضوئه وطهارته حيث نزل ، وكان بين هدهد سليمان ، وهدهد بلقيس عشق ، فغاب عن سليمان عند نزوله ، وتلاقيا الهدهدان ؛ فلما تفقده علم أنه عند معشوقه ، فغار عليه إذ اشتغل بغيره من خدمته فطلبه ، وأمر العقاب أن يأتي به فطار العقاب ، ورأى هدهد سليمان عند هدهد بلد سبأ ، فأتى به على سليمان عليهالسلام ؛ فقال : لأعذبنه عذابا شديدا ، أي : لأحبسنه في موقع فراقه عن معشوقه ، فلما جاء إليه الهدهد تحير في شأنه إيش يقول : فعلم أن سليمان في مقام أنس الله وعشقه ، ويحب أن يستأنس بمستحسن فاحتال بأن يذكر عند سليمان ما رأى من حسن بلقيس وعظيم شأنها ليكون ذلك طريقا له إلى قرب محبوبه ، فلما مهد ذلك مع نفسه تعظم في شأنه ، واجترأ من حيث جرأة العشيق (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) فلما قال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) تعجب سليمان ثم أسرع في قوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٢٢) فلما سمع سليمان قوله وجرأته عنده ، علم أنه تكلم من رأس العشق ، ويجلب قوله عجائب ، فلما أخبر تمام الحكاية سكن سليمان عنه ، واشتغل بإتيان بلقيس ، وجعله رسولا بينه وبين بلقيس ، وما أطيب رسول العاشق والمعشوق ، إذ كان عاشقا ، انظر إلى ظرافة الهدهد ، ولطافة كلامه عند سليمان كيف ذكر (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً) مرتين ساير ما رأى من الملك والبلاد والعساكر.
ثم ذكر محاسنها بألطف الإشارة بقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، وما ذكر وصف جمالها بالتصريح ؛ لأنه علم أن ذلك من سوء الأدب ، ولا تعجب ذلك ؛ فإن الأنبياء والأولياء إذا استأنسوا بعالم الملكوت ، لم يصيروا من رؤية المستحسنات ، ألا ترى كيف كان سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه يحب الوجه الحسن ، ومن فرط حب الله ، قال : «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء» (١).
وحاشا أنهم يلتفتون إلى شيء لا يكون وسيلة إلى الله ، وأحسن وسيلة إلى الله عند العارف الفعلي الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والطيب ، ورؤية كل مستحسن في العالم من الأرواح والأشباح والجواهر والأعراض ؛ لأن حسنها صدر من معدن حسن الأزل ، ولذلك قال عليهالسلام برؤية الحسن : «إن أحسن الحسن الوجه الحسن ، والصوت الحسن ،
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٢٦ / ١٣١) ، والنسائي (١٢ / ٢٨٨).