الخبر الرسول (١) لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود ولا بنفس النبأ ، لأن النبأ الواقع في عهد داود لا يصح اتيانه الرسول عليهالسلام فلابد من التقدير (٢) المذكور ، و (إِذْ) في (إِذْ دَخَلُوا) بدل من (إِذْ) قبله ، أي قد وصل إليك يا محمد خبر جبرائيل وميكائيل إذ صعدوا سور المحراب إذ دخلوا (عَلى داوُدَ) من غير الباب (فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ) أي لسنا ممن يخاف منه ، إنما نحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) أي ظلم قالوه فرضا وتصويرا للمسألة في أنفسهم وكانوا في صورة الأناسي (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ) أي اقض بالعدل بيننا (٣)(وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر في الحكم ، من أشط جار (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) [٢٢] أي أرشدنا إلى أعدل الطريق والصواب ، ثم قال لهما تكلما فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي) أي على ديني وهو بدل من (هذا) ، وخبر «إِنَّ» (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي شاة ، يطلق على الذكر والأنثى ، استعيرت للمرأة من حيث التوالد والتناسل (وَلِيَ) بفتح الياء وسكونها (٤)(نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي ملكنيها (٥) أو ضمها إلي واجعلني كافلها (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) [٢٣] أي غلبني في الخطبة وهي الكلام أو الجدال وإن كان الحق لي لضعفي فبعد اعتراف المدعى عليه.
(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))
(قالَ) داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ) خصمك (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) ليضمها (إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) جمع الخليط (٦) من الخلطة ، وهي الشركة في المال ، يعني من الشركاء الذين خلطوا أموالهم (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي ليظلم ، واللام في جواب قسم محذوف ، قيل : الخلطة قد غلبت في الماشية ، واعتبرها الشافعي فاذا كانت للخليطين أربعون شاة فعليهما واحدة للزكوة على حسب مالهما ، ولا شيء عند أبي حنيفة رحمهالله (٧) ، قوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فانهم لا يظلمون استثناء من بعضهم (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) «ما» زائدة لتأكيد القلة ، أي الذين لا يظلمون من الصالحين قليلون ، فلما اعترف المدعى عليه قال له داود : لم تسأل نعجته إلى نعاجك؟ قال : لأكمل نعاجي مائة ، فقال له داود : إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وأشار إلى طرف الأنف والجبهة ، فقال المدعى عليه : أنت أحق بذلك حيث أضفت امرأة أوريا إلى نسائك فصعدا إلى السماء حيال وجهه ويقولا قضى الرجل على نفسه فاغتم لذلك (٨) ، وإنما جاءت القصة على طريقة التعريض دون التصريح ليكون أبلغ في التوبخ بالتأمل المؤدي إلى علم المعرض به فيكون أوقع في النفس وأدعى إلى التنبيه على الخطأ فيه وإنما جاءت على وجه التحاكم إليه ليحكم بما حكم به حتى يكون محجوجا بحكمه ومعترفا على نفسه بظلمه.
وأشار إلى ذلك بقوله (وَظَنَّ داوُدُ) أي أيقن (أَنَّما فَتَنَّاهُ) بالتشديد ، أي اختبرناه بالملكين ونبهناه على خطئه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) أي سأل مغفرة ذنبه من ربه (وَخَرَّ راكِعاً) أي سقط على وجهه ساجدا عبر بالراكع عن الساجد لأنه ينحني كالساجد ، وتمسك به أبو حنيفة على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة ، والسجدة هنا واجبة عند أبي حنيفة ، وسجدة الشكر عند الشافعي ليست من عزائم السجود (وَأَنابَ) [٢٤] أي رجع عن جميع المخالفات إلى طاعة الله بالتوبة ، روي : «أن داود مكث أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه إلا لصلوة أو لحاجة ضرورية باكيا حتى نبت العشب من دمعه (٩).
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي ذنبه الذي استغفر منه (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي لزيادة في القربة (وَحُسْنَ مَآبٍ) [٢٥]
__________________
(١) لأن اتيان الخبر الرسول ، و : لأن اتيانه ، ح ، لأن اتيان الرسول ، ي.
(٢) التقدير ، وي : تقدير ، ح.
(٣) بالعدل بيننا ، وي : بيننا بالعدل ، ح.
(٤) «ولي» : فتح الياء حفص ، وأسكنها غيره. البدور الزاهرة ، ٢٧٢.
(٥) ملكنيها ، و : مكنيها ، ح ي.
(٦) الخليط ، ح ي : خليط ، و.
(٧) اختصر المؤلف هذه الأقوال من الكشاف ، ٥ / ١٣٩.
(٨) لعله اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩٦.
(٩) اختصره من البغوي ، ٤ / ٥٩٧ ؛ والكشاف ، ٥ / ١٤٠.