(وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) أي فضلنا بعضهم على بعض بالغني والفقر والحرية والرق في الدنيا (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي استهزاء ، يعني ليستخدم بعضهم بعضا بالاستيجار وليستعبد (١) الأحرار العبيد بالإكراه ، ثم أخبر أن عطاء الآخرة خير من عطاء الدنيا بقوله (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ) أي الجنة والنبوة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [٣٢] أي مما يجمع الكفار من حطام الدنيا وزينتها.
(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣))
(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) أي لو لا كراهة أن يكون الناس كافرين ، يعني راغبين في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) أي عليها ، فاللام بمعنى على أو (لِبُيُوتِهِمْ) بدل من (لِمَنْ يَكْفُرُ) ، أي لجعلنا لبيوت من يكفر بالرحمن (سُقُفاً) مفردا وجمعا بسكون القاف وضمها (٢) ، وهي سماء البيت (مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ) أي مصاعد من فضة ، جمع معرج (عَلَيْها يَظْهَرُونَ) [٣٣] أي يعلون إلى سطوحها.
(وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤))
(وَلِبُيُوتِهِمْ) أي ولجعلنا لبيوتهم (أَبْواباً) من فضة (وَسُرُراً) من فضة (عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ) [٣٤] أي يجلسون وينامون.
(وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥))
(وَزُخْرُفاً) أي ذهبا أو زينة ، يعني لجعلنا لهم زينة من كل شيء أو عطف على محل (مِنْ فِضَّةٍ) ، أي لجعلنا بعضها من فضة وبعضها من ذهب ، المعنى : لو لا الخوف على المؤمن الذي يحب الدنيا لصببت الدنيا على الكافر صبا ، إذ لا حظ له شرف في نعيم الآخرة (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا) مشددا بمعنى إلا و (إِنْ) للنفي ، أي ما كل ذلك إلا (مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) يعني يفنى ولا يبقى (وَالْآخِرَةُ) أي الجنة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [٣٥] أي للذين يتقون الشرك والمعاصي ، وقرئ «لما» مخففة من الثقيلة (٣) و «ما» زائدة تأكيدا ، قيل : لم لم يوسع على المسلمين ليرغب الناس إلى الإسلام؟ أجيب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا ، لأن الدخول لأجل الدنيا من دين أهل النفاق ونسيان ذكر الله تعالى (٤).
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦))
ثم قال (وَمَنْ يَعْشُ) أي ومن يعرض ، من عشا يعشو إذا ضعف بصره بلا آفة بعينه ، والمراد منه التعامى ، أي ومن يتعام (٥)(عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) أي القرآن بأن لا يؤمن به ولا يعمل بما فيه (نُقَيِّضْ) أي نسيب (لَهُ شَيْطاناً) مسلطا عليه يخذله مجازاة لإعراضه عن ذكر الله (فَهُوَ) أي الشيطان (لَهُ) أي للمعرض (قَرِينٌ) [٣٦] أي صاحب لا يفارقه في النار كلاهما في سلسلة واحدة أو لا يفارقه في الدنيا يزين له الضلالة.
(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧))
(وَإِنَّهُمْ) أي وإن الشياطين (لَيَصُدُّونَهُمْ) أي ليمنعون المعرضين (عَنِ السَّبِيلِ) أي طريق الهدى (وَيَحْسَبُونَ) أي يظنون (أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [٣٧] أي أنهم على الطريق المستقيم ، وإنما جمع ضمير (مَنْ يَعْشُ) وضمير ال «شيطان» في قوله (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ) مع أنهما مفردان ، لأن المراد ب (مَنْ) وال «شيطان» جنسان مبهمان
__________________
(١) وليستبعد ، ح و : ويستعبد ، ي.
(٢) «سقفا» : قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح السين وسكون القاف ، وغيرهم بضم السين والقاف. البدور الزاهرة ، ٢٨٩.
(٣) «لما» : قرأ عاصم وحمزة وابن جماز وهشام بخلف عنه بتشديد الميم ، والباقون بتخفيفها ، وهو الوجه الثاني لهشام. البدور الزاهرة ، ٢٨٩.
(٤) قد أخذه عن الكشاف ، ٥ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
(٥) يتعام ، وي : يتعامى ، ح.