ولمّا فارقه موسى ـ عليهالسلام ـ تداركته الشقاوة ، وأدركه شؤم الكفر ، واستولى عليه الحرمان ، فجمع قومه وكلّمهم في أمره ، وأجمعوا كلّهم على أنه سحرهم. وبعد ظهور تلك الآية عاد إلى غيّه .. كما قيل :
إذا ارعوى عاد إلى جهله |
|
كذى الضّنى عاد إلى نكسه |
ثم إنه جمع السّحرة ، واستعان بهم ، فلمّا اجتمعوا قالوا : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً). فنطقوا بخساسة همّتهم ، فضمن لهم أجرهم. وإنّ من يعمل لغيره بأجرة ليس كمن يكون عمله لله. ومن لا يكون له ناصر إلّا بضمان الجعالة وبذل الرّشا فعن قريب سيخذل.
قوله جل ذكره : (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))
قال فرعون : (وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ، ومن طلب القربة عند مخلوق فإنّ ما يصل إليه من الذّلّ يزيد على ما أمّله من العزّ في ذلك التّقرّب. والمقرّبون من الله أوّل من يدخل عليه يوم اللقاء ، فهم أول من لهم وصول. والمقرّبون من الله لهم على الله دخلة ، والناس بوصف الغفلة والخلق في أسر الحجبة.
ثم لمّا اجتمع الناس ، وجاء السّحرة بما موّهوا ، التقمت عصا موسى جميع ما أتوا به ، وعادت عصا ، وتلاشت أعيان حبالهم (١) التي جاءوا بها ، وكانت أوقارا ، وألقى السحرة سجّدا ، ولم يختلفوا (٢) بتهديد فرعون إياهم بالقتل والصّلب والقطع ، فأصبحوا وهم يقسمون بعزّة فرعون ، ولم يمسوا حتى كانوا يقولون : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) (٣).
ثم لمّا ساعدهم التوفيق ، وآمنوا بالله كان أهمّ أمورهم الاستغفار لما سلف من ذنوبهم ، وهذه هي غاية همّه الأولياء ، أن يستجيروا بالله ، وأن يستعيذوا من عقوبة الله ، فأعرفهم بالله أخوفهم من الله.
__________________
(١) يتصل ذلك برأى القشيري في المعجزة وأنها قد تكون قلب الأعيان ، أما كرامة الولي فقد لا تكون كذلك ، وهي مع ذلك متصلة بنبي الأمة التي يتبعها هذا الولي.
(٢) وردت (يختلفوا) والسياق يرفضها ويؤيد (يحتلفوا) كما هو واضح.
(٣) آية ٧٢ سورة طه.
ويقصد القشيري إلى أن يوضح أن العبرة بالخواتيم ، وهو بهذا يحث ـ بطريق غير مباشر ـ على التوبة ، وعدم القنوط من رحمة الله.