(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ..؟) وفائدة هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد في طلب شىء ، ولم يتذلل في ارتفاق لمخلوق ، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا ؛ فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله (١) ، ومن توّهم شىء من أمثاله وأشكاله ، ويستريح لشهود تقديره ، ولا محالة يخلص في توكله وتفويضه.
قوله جل ذكره : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤))
هذه تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم ، وتسهيل للصبر عليه ؛ فإذا علم أن الأنبياء عليهمالسلام استقبلهم مثلما استقبله ، وأنّهم صبروا وأنّ الله كفاهم ، فهو يسلك سبيلهم ويقتدى بهم ، وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة ، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل ، بينما أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم (٢).
والعوامّ أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء (٣) المتقشفين ، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.
قوله جل ذكره : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
__________________
(١) فالواجب إسقاط التدبير وشهود التقدير ـ كما قلنا في الهامش منذ قليل.
(٢) لجأ «ملامتية» نيسابور إلى هذا الستر ، واكتفوا بعلم الله بأسرار هم وصلاح باطنهم ، ولم يأبهوا بالمخلوقين. بل رغبة في تأكيد علاقتهم بالله ، وإمعانا في إخفاء حقائقهم كانوا يقومون بأشياء تستوجب الملامة .. نقول ذلك رغبة في توضيح أن أفكار هذا المذهب كانت معروفة في مدينة نيسابور موطن القشيري ، كما كان السلمى جد أبى عبد الرحمن صديقه الحميم واحدا من رواد هذا المذهب وأئمته.
(٣) القراء جماعة من قراء القرآن ظهروا منذ عهد مبكر (ولازموا الأعمدة في الليل يتهجدون ، حتى إذا جاء النهار استقوا الماء واحتطبوا للنبى وكانوا في صحبته (ابن سعد ح ٣ ق ١ ص ٣٦ ، ٣٧) ، ولكن اللفظة أطلقت فيما بعد بصفة عامة على (الذين يزورون عن الدنيا ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح والزهد والتأمل) ابن سعد ج ٦ ص ٢٥٥. (ويقال تقرى بتسهيل الهمزة أي تنسك) (أمالى القالي ح ٣ ص ٤٧) .. ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة تنقية هذا اللون من التعبد من كل الأغراض والأمراض حيث يقول : «يا أيها الناس إنه أتى على حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده ، ألا وقد خيل إلى أن أقواما يقرءون القرآن يريدون به ما عند الله ، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وبأعمالكم» البيان والتبيين ح ٣ ص ١٣٨. ولكن يبدو أن الزمن قد فعل فعله في خروج طوائف من القراء عن هذا الخط ... الأمر الذي جعل القشيري ـ وقد عاش في القرنين الرابع والخامس ـ يتحفظ في الحكم عليهم.