لا يرفعون أصواتهم فيما بينهم لئلا يسمعهم أحد. وقصدوا إلى الصرام (عَلى حَرْدٍ) أي : قادرين عند أنفسهم ، ويقال : على غضب منهم على المساكين.
فلمّا رأوا الجنة وقد استؤصلت قالوا : ليست هذه جنتنا!!
ثم قالوا : بل هذه جنّتنا ... ولكنّا حرمنا خيرها.
قال أوسطهم : أي أعدلهم طريقة وأحسنهم قولا :
(أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ)
أي : تستثنون وتقولون : إن شاء الله (١).
(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)
ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون ، ويقولون :
(كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))
قال تعالى : (كَذلِكَ الْعَذابُ) لأهل مكة (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) :
وهكذا (٢) تكون حال من له بداية حسنة ويجد التوفيق على التوالي ، ويجتنب المعاصي ، فيعوضه الله في الوقت نشاطا ، وتلوح في باطنه الأحوال. فإذا بدر منه سوء دعوى أو ترك أدب من آداب الخدمة تنسدّ عليه تلك الأحوال ويقع في قره (٣) من الأعمال. فإذا حصل منه بالعبادات إخلال ، ولبعض الفرائض إهمال ـ انقلب حاله ، وردّ من الوصال إلى البعاد ، ومن الاقتراب إلى الاغتراب عن الباب ، فصارت صفوته قسوة. وإن كان له بعد ذلك توبة ، وعلى ما سلف منه ندامة ـ فقد فات الأمر من يده ، وقلمّا يصل إلى حاله.
__________________
(١) هذا أيضا رأى مجاهد ، فجعل قول : إن شاء الله من التسبيح ، وهذه هي حقيقة تقديم المشيئة ، فهى تنزيه لله بأن لا شىء إلا بمشيئته.
(٢) هذه الإشارة موجهة إلى أرباب السلوك يقصد بها إلى التوضيح أن العبرة بالخواتيم ، وينبغى الاهتمام بهذه الفقرة كلها عند بحثنا عن «وصايا القشيرى للمريدين».
(٣) جمع أقره وهو ما اسودّ من الجلد وتقشّر.