ويقال : لم يجحد حقّ تربيته ، والإحسان إليه في الظاهر ، ولكن بيّن أنه إذا أمر الله بشىء وجب اتباع أمره. ولكن إذا كانت تربية المخلوقين توجب حقّا فتربية الله أولى بأن يعظّم العبد قدرها (١).
قوله : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ) : يجوز حمله على ظاهره ، وأنه خاف منهم على نفسه. والفرار ـ عند عدم الطاقة ـ غير مذموم عند كلّ أحد (٢).
ويقال : فررت منكم لمّا خفت أن تنزل بكم عقوبة من الله لشؤم شرككم ، أو من قول فرعون : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٣).
قوله جل ذكره : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))
ذكر فرعون ـ من جملة ما عدّ على موسى من وجوه الإحسان إليه ـ أنه استحياه بين بنى إسرائيل ، ودفع عنه القتل ، فقال موسى : أو تلك نعمة تمنها عليّ؟ هل استعبادك لبنى إسرائيل يعدّ نعمة؟ إنّ ذلك ليس بنعمة ، ولا لك فيها منّة (٤).
قوله جل ذكره : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣))
نظر اللعين بجهله ، وسأل على النحو الذي يليق بغيّه ؛ فسأل بلفظ «ما» ـ و «ما» يستخبر بها عمّا لا يعقل ، فقال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ).
ولكنّ موسى أعرض عن لفظه ومقتضاه ، وأخبر عمّا يصحّ في وصفه تعالى فقال :
(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤))
__________________
(١) هذه إشارة إلى قيمة تربية الشيوخ بالقياس إلى تربية الوالدين ؛ فالوالدان يربيان الأشباح والشيوخ يربون الأرواح.
(٢) نتذكر كيف فر القشيري نفسه من المشرق الإسلامى عند ما أحدقت به الأخطار ، وهدد السلطان الجائر حياته وعقيدته ، فلم تلن قناته ، وهرب بعقيدته إلى حيث يسلم هو ورفاقه (أنظر مدخل الكتاب).
(٣) آية ٣٨ سورة القصص.
(٤) لأن تعبيدهم وذبح أبنائهم هما سببا حصوله عنده وتربيته له ، ولو تركهم لرباه أبواه شأن أي طفل .. فليس هنا نعمة ولا منة ، لأن القصد كان إذلال أهله لا الإحسان إليهم أو إليه.