القسم الرابع والخمسون
التعقيب المصدري
وانما يعمد إلى ذلك لضرب من التأكيد لما تقدّمه والاشعار بتعظيم شأنه أو بالضد من ذلك .. مثال الأول قوله تعالى : ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) إلى قوله : ( هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) فقوله ـ صنع الله ـ من المصادر المؤكدة لما قبلها وهو كقوله : ( وَعَدَ اللهُ. ) و( صِبْغَةَ اللهِ ) ألا ترى أنه لما جاء ذكر هذا الأمر العظيم الدال على القدرة الباهرة من النفخ في الصور وإحياء الموتى والفزع واحضار الناس للحساب ، وتسيير الجبال كالسحاب في سرعتها ، وهي عند الرؤية لها والمشاهدة كأنها جامدة عقّب ذلك بأن قال ـ صنع الله ـ أي هذا الأمر العجيب البديع صنع الله ، والمعنى : ويوم ينفخ في الصور ، وكان كيت وكيت من الأشياء الباهرة واثابة الله المحسنين ، ومعاقبة المجرمين ، فجعل هذا الصنع من جملة الأمور التي هي أنفسها ، وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال ـ صنع الله الذي أتقن كل شيء ـ يعني أن مقابلة الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب من إحكام الاشياء واتقانه لها واجرائه اياها على الحكمة ، أي انه عالم بما يفعل العباد ، وبما سيرجعون إليه فيكافئهم على حسب أفعالهم ، ثم لخص ذلك بقوله : ( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ ) إلى آخر الآيتين. فانظر أيها المتأمل إلى بداعة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة ايجازه وفصاحة تفسيره ، وأخذ بعضه برقاب بعض ، كأنه أفرغ افراغا واحدا ، ولأمر ما أعجز القوي وأخرس