وتارة لم يرخّصوا بل أوجبوا التوقّف. وسيجيء في كلامنا إن شاء الله تعالى تحقيق المقام على أكمل وجه وأتمّ تفصيل وتحقيق موضع الرخصة وموضع التوقّف *.
وأمّا التمسّك بالبراءة الأصلية في نفي حكم شرعي
لأنّ الأصل في الممكنات العدم سواء ظهرت شبهة مخرجة عنها أو لم تظهر.
فقد قال به كلّ علماء العامّة وكلّ المتأخّرين من أصحابنا ، حتّى قال المحقّق الحلّي في اصوله : أطبق العلماء على أنّ مع عدم الدلالة الشرعية يجب إبقاء الحكم على ما تقتضيه البراءة الأصلية (١).
وقد قال أيضا : إذا اختلف الناس على أقوال وكان يدخل بعضها في بعض ـ كما اختلف في حدّ الخمر ، فقال قوم : ثمانون ، وآخرون : أربعون أو في دية اليهودي فقيل : كدية المسلم ، وقيل : ثمانون ، وقيل : على النصف ، وقيل : على الثلث ـ هل يكون الأخذ بالأوّل حجّة؟ حكم بذلك قوم وأنكره آخرون. أمّا القائلون بذلك فقالوا : قد حصل الإجماع على وجوب الأقلّ والإجماع حجّة ، واختلف في الزائد والبراءة الأصلية نافية له فيثبت الأقلّ وينتفي الزائد بالأصل ، لأنّ التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية ، وقد بيّنّا أنّ مع عدمها يكون العمل بالبراءة الأصلية لازما.
لا يقال : الذمّة مشغولة بشيء ، وقد اختلف فيما تبرأ به الذمّة ، وفي الأقلّ خلاف وبالأكثر تبرأ الذمّة يقينا ، فيجب الأخذ به احتياطا لبراءة الذمّة.
لأنّا نقول : لا نسلّم اشتغال الذمّة مطلقا ، لأنّ الأصل دالّ على خلوّها فلا تشتغل إلّا مع قيام الدليل وقد ثبت اشتغالها بالأقلّ فلا يثبت اشتغالها بالأكثر ،
______________________________________________________
* قول الإمام عليهالسلام : « بأيّهما أخذتم من باب التسليم » صريح في تخيير المجتهد وغيره عند تعارض الخبرين ، وقد منع المصنّف من تخيير المجتهد بقول مطلق وأبطله عند تعارض الأدلّة سواء كان التعارض بين الخبرين أو غيرهما. والمفهوم من كلامهم عليهمالسلام في التخيير عند تعارض جهات القبلة للمصلّي عموم التخيير في مطلق تعارض الأدلّة ، وهو مبطل لما أبطله ، كما لا يخفى.
__________________
(١) معارج الاصول : ٢٠٨.